الممثل آدم درايفر في دور باترسون.(أرشيف)
الممثل آدم درايفر في دور باترسون.(أرشيف)
الأربعاء 16 أغسطس 2017 / 19:59

باترسون

في أفلام جارموش نجد شخصيات شرقية، أثيوبية، يابانية، مغربية، وكلها لتكريس معنى الغرابة أكثر من كونها مادة للأيديولوجيا

يُحقق فيلم "باترسون"، للمخرج جيم جارموش 2016، دون قصد، مقولة هامة لدى هيوم، وهي "لا يُغيِّر التكرار أي شيء في موضوعه، لكنه يُغيِّر شيئاً في الروح التي تتأمله". يلعب الممثل آدم درايفر دور البطل باترسون، والمدينة أيضاً تحمل اسم باترسون في ولاية نيو جيرسي. يعمل باترسون سائق حافلة نقل عام، ويكتب الشعر في دفتر سري. مهنتان كما كان شاعر باترسون المُفضَّل الأمريكي وليم كارلوس وليامز، يعمل طبيباً جرَّاحاً، ويكتب الشعر. المهنتان على قدم المساواة، لا يريد باترسون التخلص من قيادة حافلة النقل العام حتى يتفرَّغ لكتابة الشعر. وهذا ما يُنقذ جارموش من الرومانسية، ولو أردنا لغة المُفَارَقَة، هذا ما يُنقذ جارموش من الشاعرية التي تضع العمل الفني في مكانة أعلى من المهن الأخرى. تُكتب على الشاشة أيام الأسبوع، الإثنين، الثلاثاء، الأربعاء. يستيقظ باترسون في موعد ثابت. يُقبِّل زوجته لورا، ثم ينطلق إلى حافلته. التكرار زمني، شعري، لا يسمح بالإثارة والتشويق، يسمح فقط بالتأم.

يكتب باترسون أثناء مشيه وعمله: لدينا كمية كبيرة من أعواد الثقاب في منزلنا، نبقيها في الأرجاء دائماً، حالياً نوعنا المُفضَّل هو "أوهايو بلو تيب"، على الرغم من أننا اعتدنا تفضيل نوع "دايموند". مَنْ يعرف سينما جارموش لا يتوقع في أحداث الفيلم اللاحقة، حريقاً كبيراً. أقصى ما يمكن، هو أن نرى علبة الثقاب في يد باترسون، وحروف "أوهايو بلو تيب"، تحاكي من الصغر إلى التضخم، صوت الميكروفون. صرخة الحريق المكتوم في روح المُشاهِد المتأمل كما أخبرنا هيوم.

تلعب الممثلة الإيرانية غلشيفته فرحاني دور لورا زوجة باترسون. في أفلام جارموش نجد شخصيات شرقية، أثيوبية، يابانية، مغربية، وكلها لتكريس معنى الغرابة أكثر من كونها مادة للأيديولوجيا. لورا تحلم بتكرار، أحلاماً ترويها في الصباح لباترسون. تحلم بإنجاب توأم. رد باترسون البارد البليد: أنتِ واحد، وأنا واحد. نموذج لسخرية جارموش النائية. الرد يحكم بإعدام رغبة الأمومة عند لورا، ولهذا تملك لورا الكلب البولدوج مارفن، الكاره لباترسون غيرةً على صاحبته. أيضاً باترسون يكره مارفن، لكنه مُطَالَب بتمشية مارفن الليلية. عزاء باترسون، أنه يختصر تمشية مارفن إلى النصف، نصف تمشية، ثم يربط ليش البولدوغ أمام البار. يشعر مارفن بسرقة حقه، لكنه لا يستطيع البوح للماما لورا. يستعيد باترسون مع البارمان، مجد وتاريخ مدينة باترسون. صور مشاهير مدينة باترسون على الحائط، خلف البارمان. "أبوت- كاستيلو"، الثنائي الكوميدي في الأربعينيات. "لو كاستيلو" من مدينة باترسون، وله تمثال، وحديقة عامة باسمه. بعض المشاهير لهم تماثيل فقط. الحوارات البسيطة التافهة العادية، أسلحة جارموش الثقيلة في كل أفلامه. الحوارات المبتورة الفارغة، دروع يصد بها جارموش عدوان الحدث الدرامي المختبئ وراء كل كلمة. فرامل حافلة جارموش للنقل العام، تكبح سرعات الحدث الدرامي الهوليوودي.

لورا الحالمة، زوجة باترسون، تزين الستائر والملابس والكعك، بالأبيض والأسود. دوائر ونقاط. يأكل باترسون الكعك، وكأنه يأكل ستارة. يبتلع بالماء قضمة من فطيرة شرقية لا تروقه. يكتب باترسون في فقرة من قصيدته: حين تكون طفلاً تعرف أبعاداً ثلاثة، الطول، والعرض، والارتفاع، ثم لاحقاً تعرف البُعْد الرابع، وهو الزمن. في زمن الفيلم نعرف أن مارفن البولدوغ، هو الذي يدفع حاملة البريد أمام البيت، نكايةً في باترسون. انتقام مارفن الكبير من باترسون، ينتهي بأن يُمزِّق البولدوغ الدفتر السري لشعر باترسون. النسخة الوحيدة. يعترف باترسون لمارفن بأنه لا يحبه. الماما لورا عاقبتْ مارفن ببقائه في الكاراج إلا أن باترسون أعاده إلى البيت، ربما لنفي قيمة دفتر الشعر السري. لا يفلت الانفعال من كوابح باترسون القوية. الماما لورا كانت قد اندهشتْ من ضخامة قدمي باترسون. لزوم ما يلزم. قدم كبيرة تساوي فرامل قوية. كتب وليم كارلوس وليامز، ملحمته الشعرية "باترسون"، في ستة مجلدات، نُشر في الأربعينيات والخمسينيات، خمسة مجلدات، ثم نُشرتْ الملحمة كاملةً، في ستة أجزاء، عام 1963، وهو عام وفاته في ولاية نيو جيرسي. في عام وفاة الطبيب الشاعر وليم كارلوس وليامز 1963، كان عمر جيم جارموش المولود 1953، عشر سنوات، أي يعرف فقط، أبعاد الطول والعرض والارتفاع، وسيعرف لاحقاً بُعْد الزمن.

في نهاية الفيلم يجلس البطل باترسون أمام شلاَّل جبلي من معالم المدينة. يأتي ياباني مؤدب أنيق، يُعلِّق حقيبة قماشية من زمن آخر، على كتفه. يطلب الياباني السماح له بالجلوس على المقعد، فيسمح له باترسون. وبعد سخاء الصمت الجارموشي، يُخرج الياباني أحد مجلدات "باترسون"، لوليم كارلوس وليامز، مُترجماً إلى اليابانية. يسأل الياباني باترسون إن كان من مدينة باترسون. فيرد باترسون: أنا وُلدت هنا. يسأل الياباني مجدداً. هل أنت شاعر؟ ينفي باترسون مهنة الشعر عن نفسه، ويقول للياباني، إنه سائق حافلة، مجرد سائق حافلة. يُردد الياباني: سائق حافلة في باترسون، هذا شاعري جداً، بإمكان هذه المعلومة أن تكون قصيدة لوليم كارلوس وليامز. قبل المُغادَرَة، يُعطي الياباني، هدية لباترسون، وهي دفتر فارغ لكتابة الشعر. في مسرحية "موت دانتون"، لجورج بوخنر، يقول دانتون في معنى التكرار: من الممل كثيراً أن يرتدي الواحد في البداية قميصه ثم بنطلونه، ويجر نفسه مساءً إلى السرير، ويجر نفسه صباحاً إلى خارج السرير، ويضع دوماً قدماً أمام الأخرى، ومن المُحزن أن يقوم بهذا ملايين، وأن ملايين آخرين، سيقومون به أيضاً من بعدنا. نحن مكونون من نصفين، يقوم كلاهما بالشيء نفسه، بحيث أن جموع التكرارات تحصل مرتين.