صورة تعبيرية.(أرشيف)
صورة تعبيرية.(أرشيف)
الخميس 17 أغسطس 2017 / 20:02

مُعقد نفسياً

المُخيلة الشعبية تزخر بالكثير من المُسلمات التي لا تعتمد على المنهج العلمي في طرق البحث والاستدلال بقدر اعتمادها على إيجاد رابط قسري بين كل أمرين تصادف وقوعهما معاً دون أن يكون بينهما ترابط حقيقي أو تلازم معقول

إذا عارضت قراراً في مكان عملك قالوا أنك عانيت في طفولتك من علاقة متعسرة مع والديك، أدت إلى تشكل شخصية تمردية في داخلك خلقت عندك صعوبة في تقبل السلطة بسبب انعكاس صورة والديك المضطربة على ذهنك العاطفي!

وإذا ارتكبت جريمة سرقة فإن سببها دائماً وأبداً هو نشأتك في أسرة مفككة جعلت منك نتاج تربية أم مُطلقة وأب محكوم بالمؤبد والأشغال الشاقة!

وإذا رفعت صوتك قليلاً في حوارك مع زميل لك قالوا إن ذلك راجع إلى طبيعتك العدوانية التي نمت بسبب اضطهادك من قبل زملاء مدرستك في المرحلة الإعدادية والذين كانوا يرغمونك على الذهاب إلى مقصف المدرسة بالنيابة عنهم، مما خلّف جرحاً غائراً في صدرك جعلك تعاني من اضطراب تذبذبي في الشخصية التي هي الأخرى تذبذت بين شخصية انبساطية وشخصية انقباضية!

وإذا رفضت مشاركة كوب الشاي مع زميلك الذي تبرق شفاه بلون "التوباغو" قالوا إنك أناني بسبب إفراط والدتك في تدليلك، مما خلق عندك عقدة التملك وقتل عندك فضيلة الكرم والإيثار!

من الممكن أن يكون سبب فشل شخص ما هو سوء إدارته لذاته، بسبب عدم قدرته على تجاوز الماضي، فهناك الكثير من الفاشلين الذين انحدروا من واقع اجتماعي متماسك، وهناك الكثير من الناجحين انحدروا من واقع اجتماعي مضطرب، فما أريد قوله إن المُخيلة الشعبية تزخر بالكثير من المُسلمات التي لا تعتمد على المنهج العلمي في طرق البحث والاستدلال بقدر اعتمادها على إيجاد رابط قسري بين كل أمرين تصادف وقوعهما معاً دون أن يكون بينهما ترابط حقيقي أو تلازم معقول، فلن تعدم السيكولوجية الشعبية pop psychology أن تُقيض لكل أحدٍ منّا دافعاً سيكولوجياً وراء جميع أفعاله العفوية وغير العفوية، إنها سيكولوجية ركيكة مُرتجلة تكتفي بتفنيد فكرة ما عن طريق إلصاقها بدوافع سلبية لا دليل عليها كما يقول د.عادل مصطفى في كتابه المهم (المغالطات المنطقية).

قدم عالم الاجتماع الأمريكي "غراهام سمنر" نظريته التي أسماها بالعادات الشعبية التي ترُد الأحكام الأخلاقية إلى مظاهر لا عقلانية تتفق مع المزاج العام لزمان ومكان أصحابها، وهي قد تكون تكونت بطريق المصادفة أو من خلال معرفة خاطئة، فمثلاً، وكما يقول الفيلسوف "فرانسيس بيكون"، عارٌ على الجنس البشري أن يستكشف العالم المادي على هذا النحو المذهل بينما تبقى حدود عالمه الفكري محصورة في الكشوف الضيقة للقدماء، فالطرق الشعبية الموروثة تتصف بالتعسفية والقطعية، وإذا سُئل أحدهم عن سبب إصراره على اتباع وسيلة معينة في التفكير فإنه سيجيب بأن سلفه كانوا يصنعون ذلك. 

العلم النقدي يقول إن عُمر الفكرة لا يعني صوابها بقدر ما يثبت ثباتها وصلابتها رغم كل الظروف، كنظام الرق ووأد الإناث والاعتقاد بثبات الأرض وكونها مركز الكون، فنظام الرق مثلاً رغم أنه تحول إلى تاريخ مخطوط بالخط الأسود في التراث الإنساني إلا أن صلابته عند البعض مهّد لإعادة إحيائه على يد دواعش الفِكر في هذا العصر، وهنا مكمن الخطورة في العقائد الشعبوية القابلة للترجمة إلى أرض الواقع، فهي قابلة للتحول إلى قنابل موقوتة وبؤر من الدم إذا لم يتم تنوير العقل وإخراجه من سطوة السابقين وسلطة كهّان الفِكر والدين، فقد صدق من قال:

كـل الحوادث مبدأها من النظر *** ومعظم النار من مستصغر الشر.