لافتات كتب عليها أسماء طوائف سوريا في سراقب.(أرشيف)
لافتات كتب عليها أسماء طوائف سوريا في سراقب.(أرشيف)
الأربعاء 23 أغسطس 2017 / 19:14

موجة جديدة وكتاب جديد

بات تناول جماعة معيّنة يقود بالضرورة إلى تناول أصول البلد نفسه، ومراجعة مدى قابليّة هذه الأصول للعيش والاستمرار، فضلاً عن تناول السياسات، الاستعماريّة ثمّ الاستقلاليّة

 منذ اندلاع الحرب الأهليّة – الإقليميّة في لبنان عام 1975، ثمّ الحرب الأمريكيّة في العراق عام 2003، ولكنْ خصوصاً منذ تفجّر الثورات العربيّة قبل ستّ سنوات، بدأ يظهر اهتمام جديد على صعيد الأبحاث الاجتماعيّة والتاريخيّة في بلدان المشرق العربيّ. هذا الاهتمام مداره الطوائف والجماعات والإثنيّات. هكذا راح الاشتغال على الشيعة والمسيحيّين والعلويّين والدروز، وأيضاً على الأكراد والأرمن والأشوريّين والكلدان واليزيديّين...، يتصدّر أعمال المكتبات، مهمّشاً التركيز السابق على البلدان والأوطان.

وراء ذلك كان يقف أكثر من عامل واعتبار: فالدول تراجعت وزناً وحضوراً، وبعضها تمزّق وانهار، فيما اندفع إلى الواجهات التفسّخ الاجتماعيّ الذي جعل، في حالات كثيرة، يتّخذ شكل الاحتراب الأهليّ المباشر. ولئن عبّرت هذه النزعة، لدى بعض أصحابها، عن انحيازات ناشئة إلى الهويّات الصغرى، الدينيّة والطائفيّة والإثنيّة، بات أصحابها يجاهرون بها، فإنّها عبّرت عند بعض آخر عن همّ معرفيّ جدّيّ كانت تحول دونه وتقمعه عناصر متفاوتة: ذاك أنّ الدولة الوطنيّة غير التعدّديّة، وغير المعترفة تالياً بمكوّناتها، تميل دائماً إلى إدراج اهتمام كهذا في خانة العمل على تجزئة الوطن والمجتمع. وحين يكون النظام المعنيّ بالأمر عسكريّاً وإيديولوجيّاً، يقول بالقوميّة المتشدّدة المحروسة بتشدّد أمنيّ، فإنّه يرفع ذاك الاتّهام إلى مصاف الخيانة الخطيرة و"إيهان نفسيّة الأمّة"، بحسب اللغة الرسميّة التي أنتجتها "سوريّا الأسد".

لكنْ لأنّ هذا الصنف من الأنظمة إنّما يقوم على التجهيل بالمجتمع عموماً، وبالتاريخ كلّه، وليس بطوائفه وإثنيّاته فقط، كما يقوم على تقطيع الأواصر بين جماعاته وأفراده، مالت الأبحاث الجديدة إلى تطوير ردّها المعرفيّ على التجهيل الرسميّ: هكذا بات تناول جماعة معيّنة يقود بالضرورة إلى تناول أصول البلد نفسه، ومراجعة مدى قابليّة هذه الأصول للعيش والاستمرار، فضلاً عن تناول السياسات، الاستعماريّة ثمّ الاستقلاليّة، التي شجّعت على تفكيك النسيج الوطنيّ أو على تمتينه. وفي هذا المعنى، وبسبب ندرة الأعمال السابقة التي تعرّف بالتاريخ وبالاجتماع سواء بسواء، صارت الأعمال الجديدة تتّصف بطابع الاكتشاف لما هو مطمور ومكبوت.

على أيّة حال، كان آخر ثمار هذا الجهد كتاباً صدر في بيروت للكاتب والصحافيّ السوريّ حسن القالش، حاملاً عنوان "قطار العلويّين السريع – الوعي السياسيّ عند العلويّين: النشأة والتطوّر (1822 – 1949)". والكتاب الصادر قبل أيّام عن "المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر"، في 390 صفحة، والغنيّ بمراجعه العربيّة والإنجليزيّة، والمتوقّف عند دخول سوريّا طورها العسكريّ – الانقلابيّ المديد، إنّما يستجيب للمواصفات المعرفيّة المشار إليها أعلاه، من غير أن يستجيب للنوازع الطائفيّة التي تتّصف بها بعض أعمال الموجة الجديدة. فهو يوزّع المسؤوليّات بأمانة ونزاهة، من دون أن ينسى الاحتمالات والفرص الضائعة التي كان في وسعها، لو تحقّقت، أن تدفع الأمور في غير الاتّجاه الذي اندفعت فيه.

إنّه كتاب واجب القراءة للمهتمّين بسوريّا وتاريخها، الكثير التقاطع مع تاريخ لبنان والأردن وفلسطين والعراق، كما للمهتمّين بطوائفها، خصوصاً الطائفة العلويّة، والعلاقات في ما بينها. وغنيّ عن القول إنّ ما وصلت إليه سوريّا (والعراق ولبنان...) له تاريخ، وهذا التاريخ هو ما يكتبه القالش الذي انتهى به المطاف لاجئاً إلى فرنسا، مثله مثل سوريّين كثيرين حملوا معهم بلادهم وهمومها، وآثروا أن يعرّفوا العالم بما عرفوه.