رسم لبيت الحكمة.(أرشيف)
رسم لبيت الحكمة.(أرشيف)
الأحد 27 أغسطس 2017 / 19:46

مائة عام من الترجمة

كان نجم الترجمة يخبو بين حين وآخر، ثم يعود للظهور ولم يتوقف تواصل العرب مع سائر الأمم توقفاً كاملاً، في أي زمن من الأزمان بعد "بيت الحكمة"

لم تتوقف الترجمة إلى العربية منذ أن اهتم أبو جعفر المنصور بالعلوم وتُرجمت له كتب في الطب والنجوم والهندسة والآداب. لقد خصص هذا الزعيم العربي الحكيم لتلك الكتب، خزانات في قصره تحفظها حتى ضاق قصره عنها. ولما تولى هارون الرشيد الحكم، أمر بإخراج الكتب والمخطوطات التي كانت تحفظ في قصر الخلافة، لتكون مكتبة عامة مفتوحة أمام الدارسين والعلماء وطلاب العلم، ثم أسماها "بيت الحكمة". أضاف الرشيد إليها ما اجتمع عنده من الكتب المترجمة والمؤلفة، فتوسعت خزانة الكتب تلك، وأصبحت أقساماً لكل واحدٍ منها رجال يقومون بالإشراف عليها، كما أن لها مترجمين يتولون ترجمة الكتب المختلفة من الحضارات المجاورة إلى العربية.

سرعان ما تحول "بيت الحكمة" من مجرد خزانة للكتب القديمة إلى بيت للعلم ومركز للبحث العلمي والترجمة والتأليف والنسخ والتجليد، وأصبح "للحكمة" دوائر علمية متنوعة لكل منها مشرفون يتولون أمورها المختلفة. في عهد المأمون عاش بيت الحكمة عصره الذهبي، فاتجه لجلب التراث الفلسفي اليوناني من بلاد الروم وترجمتها. وبرزت في عهده أسماء كبيرة في حركة النهضة العلمية في علم الفلك والطب والفلسفة ترجمةً وتأليفًا. وكما أسلفت، كان نجم الترجمة يخبو بين حين وآخر، ثم يعود للظهور ولم يتوقف تواصل العرب مع سائر الأمم توقفاً كاملاً، في أي زمن من الأزمان بعد "بيت الحكمة".

 ازداد اهتمام العرب بالترجمة مع اختراع المطبعة. لذلك سنمر مروراً سريعاً على تاريخ المطبعة في بلاد العرب، لنتصور أين كانت البداية فنحفظ لأهل الفضل والمعروف على الثقافة العربية فضلهم. قامت أول مطبعة عربية في التاريخ الحديث على يد الموارنة في لبنان سنة 1610 وهي مطبعة "دير قزحيا" جنوب مدينة طرابلس. استعملت تلك المطبعة الحروف السريانية والعربية بينما استعملت مطبعة "دير مار يوحنا الصايغ" التي أنشئت في الشوير عام 1733 الحروف العربية، وكان مؤسسها هو عبد الله زاخر الحموي. أول مطبعة دخلت مصر، هي تلك التي جلبها نابليون بونابرت معه في 1798 أثناء الحملة الفرنسية، وسرعان ما خرجت تلك المطبعة مع نابليون في 1801 وبقيت مصر بلا مطابع لمدة 20 سنة حتى أسس محمد علي مطبعة بولاق في 1821 . أما العراق، فقد دخلته الطباعة متأخرة بسبب ظروف الحكم العثماني المجرمة فيه آنذاك، حيث أنشئت أول مطبعة حجرية في الكاظمية عام 1821 م ولم تظهر الطباعة بشكل حقيقي إلا عام 1856 م عندما أسس الرهبان الدومينيكان مطبعة لهم في الموصل وأنشأوا فيها قسماً خاصاً بالتجليد والتذهيب. ازدهار الطباعة في القرن العشرين ارتبط بازدهار الترجمة ازدهاراً منقطع النظير بالنسبة لكل القرون العربية، لكنه إلى اليوم يظل ازدهاراً نسبياً مقارنة بما يقدمه الآخرون.

أقول هذا لأن كل ما يُكتب ويكتسب شهرة في أي مكان في العالم، يترجم سريعاً إلى الإنجليزية، في نفس السنة في أغلب الأحوال، وبالتالي لا يحتاج القارئ إلا للإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية ليطلع على كل فكر يدور في هذا العالم. هذه المقاربة لاحتواء المعرفة لم نصل إليها بعد، وإن كنا نرجو، لكن لا زال عدد الكتب العظيمة التي لم تترجم إلى العربية يمثل نسبة غالبة، مقارنة بما ترجم. هناك مشكلة أخرى تعاني منها الترجمة في العالم العربي، ألا وهي الازدواجية وعدم التنسيق، ولو أنه كان هناك تنسيق بين مراكز الترجمة العربية وتواصلاَ مستمراً لربما وفرنا الكثير من الجهد والورق والحبر، بدلاً من التكرار. أحياناً يكون الفكر الأيديولوجي هو المحرك للمترجم، فمن المعلوم أن ترجمة الموسوعات الفلسفية الماركسية كان الهدف منها الدعوة للماركسية وتشجيع العرب على تبني أفكارها.

 ويحدث أحياناً أن يتدخل المترجم فيغير عنوان الكتاب بناء على توجهه الأيديولوجي ودعماً لخطه السياسي. كتبت البروفسورة المتخصصة في الدراسات الدينية وعلائقها النفسية "زيغرد هونكه" كتاباً يحمل العنوان ( allahs sonne über dem abendland ) " شمس الله تشرق على الغرب" وبعنوان فرعي (Erbe unser arabisches ) "تراث أمتنا العربي" فإذا بعنوان الكتاب الرئيس يتغير ويشتهر باسم مختلف "شمس العرب تسطع على الغرب"! صحيح أن الكتاب يتحدث عن أثر العرب والمسلمين بعامة وإسهامهم في مسيرة العلم الإنسانية، إلا أن هذا ليس بعنوان الكتاب وكان الأجدر أن يحافظ المترجمان فاروق بيضون وكمال الدسوقي على العنوان الأساس "شمس الله تشرق على الغرب". وأحياناً لا يكون الاعتداء على العنوان فحسب، بل يكون بالتصرف في أصل الكتاب، ففي ترجمة كتاب "قصة الفلسفة" لويل ديورانت تجاوز الأمر إلى أنه عند مقارنة النص الإنجليزي بالنص العربي وجدت أنني أمام تلخيص للكتاب وليس ترجمة كاملة له. فقد كانت تمر بي أربع أو خمس جمل لا تترجم وإنما تلخص في جملة واحدة، وكثير من الأسماء والأحداث يتم تجاوزها. لا أجد في نفسي الكفاءة ولا الجرأة على أن أقيم حركة الترجمة إلى العربية خلال المائة سنة الماضية، لكن هذا لا يمنع من فتح الموضوع ليكون محوراً للنقاش في أوساط المثقفين ليدلي كل واحد منهم بدلوه، فيما يجب أن نفعله لنجعل هذا المجال مفتوحاً للتطور، ككل شيء آخر في هذا الكون.