تمثال لأبي الريحان البيروني في ايران.(أرشيف)
تمثال لأبي الريحان البيروني في ايران.(أرشيف)
الخميس 31 أغسطس 2017 / 19:49

سرديات الهند عند البيروني: مفارقة الدهشة إلى التفكيك

يكتسب هذا الكتاب أهميته في كونه أول كتاب صُنِفَ باللغة العربية عن الهند كما أنه أول كتاب وصف أنثروبولوجي يُؤلف قديمًا في العصور الوسطى عن الهند

"إنهم يعتقدون في الأرض أنها أرضهم وفي الناس أنهم جنسهم وفي الملوك أنهم رؤساؤهم وفي الدين أنه نحلتهم وفي العلم أنه ما معهم فيترفعون ويتبرمون ويعجبون بأنفسهم فيجهلون، وفي طباعهم الضن بما يعرفونه والإفراط في الصيانة له عن غير أهله منهم فكيف عن غيرهم؛ على أنهم لايظنون أنَّ في الأرض غير بلدانهم وفي الناس غير سكانها وأنَّ للخلق غيرهم علمًا".

بهذه الكلمات افتتح أبو الريحان البيروني(ت 440هـ) مقدمة كتابه أو خطبة كتابه التصديري عن الهند، والكتاب الذي أعنيه هو "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة"، وهو الكتاب الذي ألفه أبو الريحان البيروني في القرن الخامس للهجرة في عهد السلطان محمود الغزنوي. والبيروني لم يأتِ إلى الهند سائحًا أو مسافرًا فلقد كان قدومه إليها مصاحبة منه لغزوات السلطان الغزنوي. وهذا يعني أنَّ توثيقه لمشاهداته العيان عن الهند تختلف عن سرديات رحَّالة عرب مسلمين من أمثال ابن بطوطة وابن جبير وآخرين استقروا في المكان لفترة ما، فضلاً عن وجود أدبيات من العجائبية العربية القديمة وُجِدَت في بعض المصنفات مثل كتب الجغرافيا والمسالك والممالك والتواريخ وحتى مرويات بعض الرحَّالة. فبزرك بن شهريار ألف عن عجائب الهند في كتابه "عجائب الهند بره وبحره وجزائره"، وذلك في القرن الثالث للهجرة؛ أي قبل البيروني بحوالي قرنين. وكان بزرك بن شهريار منبهرًا بما رآه من العجائب والمدهشات الهندية فخلق للهند متخيلاً أضاف إليه من عناصر التعجيب والغرائبي الكثير خاصة مما سمعه من أفواه رحّالة لا يخلو سردهم من الغريب والعجائبي الذي يفارق في كثير من الأحيان حدود العقل والمنطق.

يكتسب هذا الكتاب أهميته في كونه أول كتاب صُنِفَ باللغة العربية عن الهند كما أنه أول كتاب وصف أنثروبولوجي يُؤلف قديماً في العصور الوسطى عن الهند، وهذا سبب عناية الهنود الشديدة بهذا الكتاب إلى الدرجة التي جعلتهم يطبعونه في مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد. لقد أصرَّ البيروني على أن كتابه يسرد حكاية وليس خطابًا حجاجيًا، ولكن لا يخلو هذا الكتاب من نزعة البيروني التفكيكية لنقد كل ما يتعلق بالهند في عصره وخاصة فيما يتصل بالعقائد والأديان. وقد اتهم بعض الباحثين البيروني بأن ما قام به مقارنة جائرة للهند القديمة وبأنه منطلق أساسًا من وجود مركزية إسلامية حاكمة يصدر عنها.

لقد أجاد البيروني اللغة السنسكريتية (اللغة الهندية القديمة) وهذا يبدو واضحًا في حديثه عن لغات البلاد وعلومها ومعارفها. ويبدو واضحا كذلك حضور عنصر المقايسة والمقارنة لديه والعودة إلى المرجعية الفلسفية اليونانية لمقارنتها بما لدى الهنود من معارف ودائمًا تكون الكفة الراجحة هي كفة المرجعية الإغريقية. وأتساءل هل كانت عزلة الهنود آنذاك كما يقول أبو الريحان البيروني سببًا في مقارنته المركزية الجائرة هذه وخطابه الاستعلائي الواضح؟ لقد كان احتكاك أبو الريحان البيروني بالهنود من خلال الغزوات التي قام بها السلطان محمود الغزنوي إلى تلك البلاد وبالتالي لم يحتك البيروني بما يكفي بطبقات الشعب الهندي. وربَما كانت نزعته العلمية سببًا في اعتماده الأكبر على الكتب التي ألفها الهنود أكثر من اعتماده على الروايات التي تفتح مجالاً لعوالم من الدهشة والعجائبية . نحن إذن أمام عالم يصنف ويقايس ويقارن ثم يحكم وبالتالي تنعدم هنا قوة المخيلة والتخيل ويغادر جغرافيا الدهشة إلى منطقة التفكيكات العلمية حيث حضور العلم والمنطق وغياب الإبهار!