صورة تعبيرية.(أرشيف)
صورة تعبيرية.(أرشيف)
الجمعة 1 سبتمبر 2017 / 21:15

ممنوع الضرب

استمر شعوري في الامتعاض والحنق في المرحلة الإعدادية، وحينها أصبحت هوايتي في مناكفة المعلمين، ومنعهم من التنمر على الزملاء. ربما لأنها كفلت لي الطرد من الحصص المضجرة

لم أعرف ما هي الوزارة في صغري، بل وربما تخيلتها مسؤولة ذات مسطرة خشبية طويلة على غرار إحدى معلماتي المختلات. كل ما سمعته آنذاك بأنها هي تحديدا من تدخلت لتمنع ضربنا في الفصول.

وتطلّبني الأمر قرابة عقدين من الزمن لأدرك بأنه على الرغم من قرارها الحازم، كنت في الواقع شاهدة على مئات اللكمات والصفعات. ولكن من نوع آخر.

أذكر جيداً تلك المواقف التي بدت صغيرة وتافهة خلال المراحل الدراسية المبكرة، أي رياض الأطفال والمرحلة الابتدائية، ولكنها جعلتني أرغب في البكاء -بل العويل- غضباً، دون أن أمتلك تفسيراً مقنعاً لدموعي، حيث وددت في أن يرى هؤلاء الكبار بأنهم لحماقتهم وقلة حرصهم باتوا يخدشون جزءاً غضاً من روحي.

لقد جرّبت شعوراً علِمت –ودون أن أمتلك المخزون اللغوي الكافي لتعريفه- بأنه غير صالح للاستهلاك البشري. وكبرت لأعي بأنه يُدعى الإذلال، وبأن ما أوجعني كان شعوري بالكرامة.

أذكر حينما ذهبنا في رحلة مدرسية، فرُبطنا من معاصمنا في قطار بشري طويل. أذكر جلافة المعلمات في ربط الحبل، ومعاملتنا المحرجة أمام الغرباء من رواد الملاهي كما لو كنا عبئاً كريهاً. أذكر صراخ معلمة العلوم في وجه زميلي لأنه تثاءب دون أن يغطي فمه! أذكر سخرية معلمة الفنية من زميلتي لأنها لم تمتلك إلا قلماً واحداً.

لا بد وأنهن لم يلحظن، ولن يتذكرن شيئاً. بل لم يتخيلن حتى احتمالية أن أرغب في الصراخ "كفى!"

لقد استمر شعوري في الامتعاض والحنق في المرحلة الإعدادية، وحينها أصبحت هوايتي في مناكفة المعلمين، ومنعهم من التنمر على الزملاء. ربما لأنها كفلت لي الطرد من الحصص المضجرة. ولكن بوصولي إلى تلك السن، كانت قواي قد خارت قليلاً.

فحين تجرأت معلمة الاجتماعيات على وصفي بالمضطربة عقلياً أمام زملائي المتضاحكين، ضحكت معهم. لم أشعر بالخزي؛ كل ما جال في ذهني أن لكنتها طريفة.

أصبح من الصعب على المعلمين أن يمعنوا في إهانتنا وإذلالنا في المرحلة الثانوية. ولكن قواي لم تخر فحسب، بل تلاشت.
"لم تأخرتِ في دورة المياه؟"، صرخت المعلمة في وجه زميلتي التي اقتربت من سن الرشد والبلوغ، وكثيراً ما عكفت على تقديم طلبات الالتحاق بكليات الطب. تخيّلوا...

ولكني ضحكت آنذاك، وضحكت وضحكت وضحكت، إذ راحت المسكينة تعلل على مرأى من الجميع إصابتها بالغثيان.
فهمت متأخرة سبب ضحكي، وفي وقت أدركت فيه أيضاً أن زملائي الصغار كانوا يكشفون الكدمات البنفسجية لآبائهم وأمهاتهم، ولكنهم لم يكشفوا قط عن الأذى الذي تغلغل إلى دواخلهم. كان "عادياً"، "مقبولاً"، "مبرراً"، فهي مجرد كلمة تُطلق في لحظة من الاستفزاز أو المعاناة من الضغوطات، ولا يفترض بنا أن نكون مفرطي الحساسية تجاهها.

لقد تعافوا من الكدمات، ولكن هل يمكن أن نتعافى حقاً من إنتاج أجيال تستمرئ الإهانة والتجريح والاستصغار؟