الشاعرة ليندا نصار.(أرشيف)
الشاعرة ليندا نصار.(أرشيف)
السبت 2 سبتمبر 2017 / 20:08

لأني في عزلة...ليندا نصّار والشعر كقفزة

ليندا نصّار دخلت إلى الشعر هذه المرّة بعدّة أخرى وبتتطلّع آخر وبرؤيا ثانية، كأنّ السنّة الماضية كانت سنة ضوئيّة، وكانّها قفزت في سنة من عمر إلى عمر

من قرأ مثلي آخر مجموعات ليندا نًصّار"طيف بلا ظل" الصادرة أيضاً عن دار النهضة، ومن كتب عن هذه المجموعة ما قبل الأخيرة ما كتبته أنا في "السفير" سيجد نفسه يفاجئ حاله، فثمّة بالتأكيد أكثر من مفاجأة في المجموعة الجديدة، ثمّة هنا شعر آخر، بل ثمّة هنا شعر. سننسى هذه المرّة ما سبق أن قرأناه وما كتبنا عنه. لن نتعرّف في الكتاب الجديد على ذكرى الكتاب الماضي. لن نجد بين الكتابين شبهة قربى أو تواصلاً من أي نوع، فليندا نصّار دخلت إلى الشعر هذه المرّة بعدّة أخرى وبتتطلّع آخر وبرؤيا ثانية، كأنّ السنّة الماضية كانت سنة ضوئيّة، وكانّها قفزت في سنة من عمر إلى عمر.

في مجموعتها ما قبل الأخيرة كنّا أمام بروفا شعريّة كتبت بقدر من العشوائية والوعورة والإرتجال، أمّا الآن فنحن أمام أنساق، أمام حرفة حقيقية، لكنّنا أيضاً أمام تفجّر حقيقي أو أمام فيض متسلسل للغّة والخيال والتأسيس الأسلوبي. نحن هنا أمام قصائد، أمام قصيدة صنعت بميزان الشعر، أمام سبك وبناء ليس لهما ما يمتّ إلى وعورة سابقة أو اعتباط. المعنى أن ليندا نصّار لا تغنّي كثيراً، نصّها مبنيّ أكثر مماّ هو مغنّى، لكنّها في هذه المجموعة تملك بل تصنع أسلوباً. يسعفها في ذلك قدرة على اجتراح صلات بين الشتات لكنّها صلات تؤسّس لمساحات وحيّزات وأمكنة جديدة، فيما أن ما ينقص الكثير من الجدد هو هذا النسق والإيقاع. قصيدة ليندا نصّار هي بهذا المعنى تأسيس للغّة واجتراح للغة. الخيال هنا ملتحم بالإيقاع، ملتحم بالأسلوب ملتحم بالبناء، فالقصيدة تجمع بين الشوارد وتأتي بالشتات لكنّها تكوّن منها معماراً وإشارات ومضمرات ولمحاً وإشعاعات .

هل أكون أنا
خشبة ثلاثيّة الأبعاد
لا تبعد عن حافّة الكأس
هي أقرب إلى أن تكون الأخيرة
لم يكن هناك أحد يمثّل، فقط ظل وضوء أسود
وباقة وردة بلاستيكيّة
تخيّلت المكان، ما اسمه، لم يدوّن في أيّ سجّل
حانة الثلاثين

في هذا المقطع من بدايات المجموعة نجد القريب والبعيد بل نجد القريب البعيد، اللغة بأثاثها المادّي وإشاراتها المجرّدة، بملمحها شبه الواقعي وتداعياتها اللاواعية. لكنّ ما أمامنا متداخل متقاطع في نسق وفي أداء إيقاعي، حانة الثلاثين لم تولد من الغيب. لقد التمّت من جزيئات وتفاصيل وتداعيات ليبدو الإسم الأخير وكأنّه يحوي ذلك كلّه ويسمّيه

كان عليّ ان اخترع نقص اللحظة
كي اشرّع لغة إنتهكها صمت شاحب
واعاشر الغياب متنقّلة بين النور والظل
وفي جيبي خمسة أحجار
محفورة عليهاأسماء طفولتي

من اللحظة الناقصة، لحظة الصمت نصل إلى الغياب بوجهيه فإلى أحجار الطفولة. لا نزال هكذا في ذات اللحظة الناقصة الصامتة التي تتكشّف عن إرث الطفولة الساكن الصامت، إرث من حجر، هكذا ننتقل من الصمت إلى الحجر لكن بين النور والظلّ، خلل لحظة رهيفة معلّقة.

لكن ليندا نصّار ليست فقط لهذه اللحظات المعلّقة، هي أيضاً للشوارع، للعالم السفليّ للضواحي ولليوميّات وللضجج وللمقاهي وللمدن وإستراحاتها. إنّها أيضاً للحياة اليوميّة وللغضب اليومي.وكمثل شعراءالبيت وغينسبرغ بخاصّة تنظر إلى الحمرا كما نظرالشاعر إلى نيويورك ذات يوم.

على بعد ثلاث خطوات صعوداً نحو قلبي
ينتحر شارع الحمراء...
لم يكن مخلصاً
لفكرتي عن الحياة
أن ألتقي ذات نهار النهار متفرّغاً للتجوّل من غير إشارات حمراء...
تلوح لي الجموع صاعدة سلالم
من سحاب
بينما ألتقط صورة
لبقايا خطو
يحاول أن
يتعرّف على من مرّ...

كان غينسبرغ يصيح نيويورك ..نيويورك أمرّعلى واجهاتك وأشتري كلّ شىْ بالنظرات. أمريكا، أمريكا خذي قنبلنك الذرية وضاجعي بها نفسك. بلغة أخرى. بلغة أخرى وإيقاع آخر تخاطب ليندا نصّار شارع الحمرا، لكنّ الجديد هنا هو دخول الشعر في اليوميات وتوفيره إيقاعاً لها.