تساقط الثلوج.(أرشيف)
تساقط الثلوج.(أرشيف)
الجمعة 8 سبتمبر 2017 / 20:03

ندفة الثلج

الخوف من أن نصبح ندفاً للثلج، والخجل من أن نتناثر بسماجة وتكلّف وإنسانية مفرطة على كل مشهد وكل كلمة لا تعجبنا، لم يعد مبرراً لأن نظل كتلاً خرسانية عديمة الشعور

كنت طفلة فظة، عنيفة، جلفة، أضرب الصبية المُنعّمين لأستفز "التوستيرون" في أجسادهم، وأركل الفتيات اللاتي لا يبدين خشونة في ملعب كرة السلة. لم أكن ألقي بالاً لمشاعر أحد، ولم أكترث يوماً للدموع التي تطفر من أعينهم حين أشبعهم سخرية وشتماً.

من العجيب حقاً إني كبرت لأصبح فرداً في "جيل ندفة الثلج" كما يدعوننا في الغرب، ذلك لأننا جيل هش، "دلّوع"، مفرط الحساسية، ولديه إيمان راسخ بأن الكون معني بعدم جرح أحاسيسه المرهفة، أو الإساءة إليه. كندفة الثلج تماماً، إنهم يروننا معرضين للذوبان فور ارتطمنا بالواقع القاسي والملتهب.

فنحن الجيل الذي يُصرّ إصراراً طفولياً غريباً على مراعاة الهويات والميول المتفردة للآخرين، ومراجعة الأفكار السائدة عن الأعراق والأديان والجماعات، واستخدام المسميات والألفاظ -وحتى الضمائر- الـمقبولة لوصفهم، وكأنما بضعة كلمات باتت هي الخطر المحيق بوجودهم وحريتهم. إننا نصل بسذاجة إلى حد مهاجمة الآخرين، وتقييد حديثهم وكتاباتهم، فقط لأننا لم نحبذ النعوت التي استخدموها.

كم نحن مزعجون وسطحيون!

لم يساورني شك في ذلك حينما انخرطت في حوار شائك مع صديق مغترب. فكعادة الفنانين المدمنين على إثارة الجدل، كان قد قرر أن يضع كلمة إنجليزية تعني "الكسيح" اسماً لأحد أعماله، وهي الكلمة التي باتت تعتبر مهينة للغاية لوصف ذوي الاحتياجات الخاصة.

ولقد أفحمني حينما رد بأن المرء منا لا يستطيع بأي حال من الأحوال مواكبة ما يُدعى بالـpolitical correctness.

"هم معاقون، ثم ذوو احتياجات خاصة، وأخيراً باتوا عندكم في الإمارات أصحاباً للهمم. كفى حساسية، فهي إنما تشي بضعف المرء".

وشاءت الصدف المكتوبة بعناية القدر أن يدخل معرضه شخص على كرسي متحرك. لقد انتظرت هذه اللحظة لتكون اختباراً حقيقياً لضعف صديقي وجبنه.
"لم أخف"، قالها لي مؤكداً.

"لم يكن قادراً على أن ينهض ليوجّه إليّ لكمة خاطفة، ولم يبد على درجة من اللؤم لأن يقاضيني. بالكاد كان قادراً على الكلام أصلاً، فلم يستطع معاتبتي، أو مجادلتي وإحراجي".

وأكمل بنبرة مرتعشة، "ولكن حينما جلس قبالتي واضعاً عينه في عيني، أدركت فجأة مدى تفاهة حريتي المكفولة في الإساءة".
للأسف، كان صديقي محقاً.

فستتغير القوانين واللوائح التي تجرّم هذه الكلمة، وتعاقبنا على استخدام تلك. وستتبدل الأعراف بشأن المسميات المقبولة وغير المقبولة. تماماً كموضات باريس وميلانو، سنفشل في مرحلة ما في "مجاراة" الوعي السائد، أو التحرر كلياً من صورنا النمطية عن الآخرين، أو تذكّر الضمير الأنسب لوصفهم. ولا بأس، لنخفق مراراً وتكراراً.

ولكن الخوف من أن نصبح ندفاً للثلج، والخجل من أن نتناثر بسماجة وتكلّف وإنسانية مفرطة على كل مشهد وكل كلمة لا تعجبنا، لم يعد مبرراً لأن نظل كتلاً خرسانية عديمة الشعور، تتواطأ مع حدة هذا العالم وتحجره.

فربما أنا لم أكبر، بل وجدت الطفلة القوية في داخلي.