مسلحون من الميليشيات اللبنانية. (أرشيف)
مسلحون من الميليشيات اللبنانية. (أرشيف)
الجمعة 8 سبتمبر 2017 / 20:09

حكم الميليشيات

تعلّمنا التجربة اللبنانيّة أنّ سلطة ما بعد الحرب لا تبرأ من الحرب، إنّها موجودة وقائمة على أساسها، أي أنّها تحمل كلّ ما أرسته هذه الحرب وما إنتهت إلى تكوينه وإلى نصبه

تعلّمنا التجربة اللبنانيّة في الحرب الأهليّة أنّ انفراط المجتمع إلى ميليشيات متناحرة ليس أمراً يمكن تجاوزه في زمن محدود ولا يمكن تخطّيه بمجرّد انتهاء الحرب، فهو غالباً يدخل في نسيج حكومة ما بعد الحرب، حتّى لو قامت هذه الحكومة على اتفّاق شرعي، وحتّى لو تأسست على سلام الشجعان كما يقال في هذه المناسبات.

حكومة ما بعد الحرب الأهليّة هي فقط حكومة ما بعد الحرب الأهليّة. تعلّمنا التجربة اللبنانيّة أنّ سلطة ما بعد الحرب لا تبرأ من الحرب، إنّها موجودة وقائمة على أساسها، أي أنّها تحمل كلّ ما أرسته هذه الحرب وما انتهت إلى تكوينه وإلى نصبه. سلطة ما بعد الحرب لا تنجو من الحرب، إنّها الحرب بطريقة أخرى. كلّ اشتباك كلامي أو لفظي وكلّ حوار سهل أم تصعّب يحملان في داخلهما أثر الحرب و نذرها، كما يحملان بطبيعة الحال ذكرياتها وكل ما إنطبعت به وما أنشأته من لغة ومن خطابات ومن طقوس ومن تقاليد.

 لغة ما بعد الحرب ليست لغة سلام وإن ظهر عليها ذلك، وإن بدا ذلك في إنشائها وخطابها وفي أدبيّاتها. لغة ما بعد الحرب ليست في العمق لغة سلام. إنّها مهما بدا عليها حرب بالألفاظ، حرب بالكلمات. إنّها نذر الحرب وتهديداتها وعباراتها مختفية طيّ لغة أخرى. ليس أدلّ من ذلك أن أي اتفاقّ ولو كان عرضياً يجري التهليل له على أنّه من بشائر الوحدة ومن دلائل الإتفّاق، ذلك أن الواضح للجميع أنّ السياسة والعلاقات السياسيّة لما بعد الحرب هي إدارة الصراع والاشتباك، بحيث أن أيّ مصادفة اتفّاق تبدو في هذه الحال مفاجئة وغريبة.

كلام الوحدة في هكذا ظرف هو ديباجة لا تعني أيّ شيء، فيما أن أي أمر عرضي أو أساسي يحمل في داخله بذور الخلاف، والخلاف على الصغير والكبير، ما يعني دائماً أنّها الحرب كما قال كلاوزفيتز بوسائل أخرى.

كيف تكون الدولة في هكذا وضع؟ لن تكون بالطبع الدولة الراعية أو كما يقول غرامشي الدولة المربّية. لن تكون طبعاً الدولة اللاحمة ولا الدولة الّتي تستوعب المجتمع بكل انقساماته وصراعاته. لن تشكّل وجهة للوحدة ووجهة للإتفّاق. لن تكون في هذه الحال سوى صورة عن المجتمع بصراعاته وجماعاته وطوائفه، بل ستكون صورة الحرب نفسها، هدنة بين حربين أو حرب خفيّة. هل ستكون هذه دولة حقاً أم أنّها ستحمل إلى القمّة الانقسامات وستكون الدولة نفسها شراذم وعصب ومتفرّقات، ستكون ميدان الحرب وساحتها، ستكون حرباً معلنة أو مستورة، ستنتقل الحرب اليها وإلى إدارتها، ستكون حرباً ضمن الدولة وضمن الإدارة وعلى الدولة وعلى الإدارة.

دولة كهذه والأفضل أن تسمّى حكماً أوسلطة، هي من نتائج الحرب بل هي النتيجة الكبرى للحرب، فالدولة هنا لن تكون سوى مستودع الميليشيات وسوى موئل أفراد الميليشيات الّتي هي مهما كان موقفنا منها خروج على الشرعيّة والقوانين وسلوك إنتهاكي وعسف إحتماعي. أفراد الميليشيات يصعدون إلى الدولة، كما هو المثال اللبناني وكما سيكون الأمر في أيّ بلد آخر، سيكونون بعد الحرب هم الدولة وهم فيها بحسب مراتبهم، منهم سيكون المسؤولون والرؤساء والكادرات. هؤلاء في أوضاعهم الجديدة لن يتحوّلوا إلى قضاة ولا قانونيين. سيستمرّون في سلوكهم الانتهاكي، سيستمرّون في عبثهم بالقانون وفي طائفيتهم وتعصبهم لجماعاتهم وفي ابتزازهم لخصومهم بل وابتزازهم للمجتمع كلّه.

هل نستطيع أن نسمّي هذا درساً أو دروساً مهما كان المصدر أو العنوان. انتهت الحرب اللبنانيّة وانتقلت إلى ما بعدها وباتت الميليشبات وأفرادها في السلطة، وبدأت معالم سلطة ما بعد الحرب الأهليّة تظهر. والآن نحن في الحرب الأهليّة العربيّة الشاملة، في سوريا وفي العراق وفي اليمن وفي ليبيا، ويمكننا أن ننتظر حروباً أخرى، فماذا سيكون من أمر هذه الحروب وما بعدها. ماذا سيكون من أمر حكومات الميليشيات وسلطات الميليشيات، وأي دول ستنشأ تحت هذه السلطات أو ستتكوّن منها.