السبت 9 سبتمبر 2017 / 20:02

منهج تعليم يقي من التطرف الديني.. ما هو مضمونه؟ وكيف نعده؟

د. عمار علي حسن

تغلب على الحديث الدائر حول تعديل مناهج التعليم من أجل محاربة المتطرفين والإرهابيين الذين يتوسلون بالدين أو يتخذون منه مبرراً وغطاء لعملياتهم المنبوذة، مناداة بتجهيز مناهج لتدريس مادة التربية الدينية تختلف عن تلك المقررة الآن، بحيث يتم التركيز فيها على قيم التعايش والتسامح وفهم الآخر والإقرار بالتنوع الإنساني. لكن هذا المسعى لا يزيد عن استبدال نصوص بأخرى، واستشهادات بغيرها، لكنها لا تعني تغيير طريقة التفكير في الدين باعتباره تجربة فردية.

وقد شاركت في ندوة عقدها مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية يوم الأربعاء الماضي بعنوان "التعليم والتطرف والإرهاب" بدعوة من مديره العام الأستاذ الدكتور جمال سند السويدي طالبت فيها بمراعاة عدة مسائل، حال التفكير في مناهج تعليمية دينية مختلفة، يكون بوسعها محاربة أو مواجهة التطرف والإرهاب. ويمكن ذكر هذه المسائل على النحو التالي:

1 ـ من الضروري أن تتضمن المناهج التعليمية ما يساعد على كشف بل فضح منهج التفكير عند أتباع الإسلام السياسي، كنموذج للمغالطات المنطقية الفادحة، حيث نجد أن النتائج تسبق المقدمات في كتابات هذا التيار. فهم يحددون الموقف الذي يحقق مصلحتهم أو منفعتهم ثم يبحثون في النص القرآني والأحاديث المنسوبة للرسول (عليه الصلاة والسلام) والمقولات الفقهية والأسانيد التراثية والوقائع التاريخية بما يبررون به الموقف، أو يجدون له تخريجات شكلية، خاصة إن كان مجروحاً من الناحية الأخلاقية أو العقلية. ومثل هذا المسلك يحتاج إلى الرد عليه وتفكيكه وكشفه أمام الأجيال الجديدة، حتى لا تنطلي عليها مقولات هذا التيار بدعوى أنها تمثل صحيح الدين أو طريقه المستقيم.

2 ـ لا يمكن أن يكون هناك حديث جاد عن تعديل المناهج التعليمية لمحاربة الإرهاب، طالما استمرت مناهج التعليم تخاطب الذاكرة فقط، وتعتمد على الحفظ والترديد، فيبدو المدرس والطالب وكأنهما بمثابة أعمى يقود أعمى. وتكريس هذه الطريقة في التعليم على مدار عقود من الزمن جعلت نسبة من أعضاء هيئة التدريس في مختلف مراحل التعليم، حتى الجامعي منها، يعتبرون عقبات تحول دون بلوغ أهداف الجهود الرامية لتطوير التعليم، ولا نبالغ إذا قلنا إنهم يفرخون أجيالاً ضحلة الفكر بعيدة عن الموضوعية، خامات بشرية صالحة للتشكل في القالب الجاهل المتعصب الإرهابي.

فمثل هذه الطريقة جعلت التعليم يتحول إلى "بيئة حاضنة للتطرف"، تقوم على سيادة التلقين، وتعطيل الفكر النقدي، والاستبداد والقمع، وغياب الخيال، وضعف المشاركة، ومحدودية الانفتاح على المجتمع الخارجي، وهو الأمر الذى يحول المؤسسة التعليمية من مؤسسة مجتمعية منفتحة إلى مؤسسة بيروقراطية منغلقة، فإذا كان التطرف يقدم ثقافة جامدة، جافة، مفعمة بالاستعلاء، واقصاء الآخر المختلف.

3 ـ لابد من الالتفات إلى "المنهج الخفي"، وهو ما يزرعه المعلمون في رؤوس طلابهم من آراء وثقافات خاصة بهؤلاء المعملين، ولا يكون لها علاقة بالمنهج الدراسي المقرر، وتزيد هذه العملية في ظل غياب رقابة الأجهزة التعليمية الرسمية.

4 ـ من الضروري التوقف عند إطلاق اصطلاح علم على الرؤية الدينية، فهي معرفة إنسانية على أقصى تقدير، بعضها قد يتوسل بالتفكير العلمي، لاسيما في مجال الفقه، لكن هذا التوسل، في درجته الأقصى، يظل أقل بكثير مما يقتضيه العلم أو التفكير العلمي، فالعلم يروم الحقيقة بلا قيود ولا حدود، بينما الفقه إن وجد نصا اتخذ منه مقام الحقيقة، وكان هو غاية ما يصل إليه.

ومن هنا يتحول العلم الديني إلى طريقة شكلية، يبدو أن ظاهرها علم بينما باطنها ليس كذلك، وهي في نهاية الأمر ترمي إلى التعمية على الهدف الحقيقي. واعتبار النص هو النهاية أو الإطار النهائي، مع الإفراط في تحديد هذا النص، وهذا لا يمكن أن يكون علما بالمعنى المحض، إنما تصبح غاية ما يتم الوصول إليه في هذه الحالة هي تطويع العلم ليوافق تأويل النص.

وتلخص هذا مقولة الشيخ محمد الخضري: "إن العلم ليقف حائراً مبهوتاً إذا أريد منه إيضاح الآثار السيئة في نفس المتعلم لما نتداوله الآن من كتب الفقه".

4 ـ من المهم التنبه إلى ما يقوم به التيار الديني المتطرف من خلط المعرفة بالدعاية والأيديولوجيا، والذي يتجلى في أكثر صوره تكثيفا فيما يسمى بـ "إسلامية المعرفة"، والتي يصفها الذين ينادون بها بأنها فلسفة منبثة عن الله، ومنقطعة عن هداية وحيه ومنهاجه، فيما يعرفها واحد من دعاتها وهو الدكتور محمد عمارة بأنها "الإيمان بوجود علاقة ما بين المعارف والعلوم التي يكتسبها الإنسان وبين الإسلام الذي يتدين به هذا الإنسان، الذي يكتسب هذه المعارف، ويحصل هذه العلوم، وذلك انطلاقاً من تأثيرات عقائد الدين وأحكام شريعته، ومعايير التدين به على العادات والتقاليد والأعراف والمواريث والآداب والفنون التي صاغت وتصوغ النموذج الثقافي لهذا الإنسان الذي يخوض ميادين البحث والاكتساب للمعارف والعلوم".

ولأن إسلامية المعرفة، كما يقول الباحث محمد همام، "ليست إضافة عبارات دينية إلى مباحث العلوم الإنسانية والاجتماعية أو الطبيعية، في إطار منهج المقارنة أو المقاربة مع الفكر الآخر، ولكنها إعادة صياغة منهجية معرفية للعلوم وقوانينها"، فإن تؤدي في تطبيقها إلى تطويع العلوم لتصورات أيديولوجية، الأمر الذي يفقدها علميتها تماما.

5 ـ من الواجب تضمين مناهج التعليم مساقاً في التربية الأخلاقية أو الوعي الأخلاقي، والذي تعاني الرؤى الدينية المطروحة من فقر شديد فيه، رغم أن الانشغال به، والسؤال عنه، قديم في الثقافة العربية الإسلامية. فما جرى من "غلبة الفقه على الفلسفة، والشريعة على الأخلاق والضمير الإنساني المستقل، والتدين على الدين، لم تسعف في انبثاق علم أخلاق إسلامي يتصف بالانضباط والاتساق الذاتي، وقابلية التعميم"، حسبم يقول عودة برهومة في بحث مهم عن الوعي الأخلاقي.

فغياب الجانب الأخلاقي، المرتبط إلى حد عميق وبعيد بالروحانيات ويقظة الضمير، حول العبادات إلى مجموعة من الطقوس الجوفاء، وجعل المعاملات تقوم على النفعية سواء بتحصيل مكاسب دنيوية عاجلة أو السعي إلى الفوز بمكاسب آخروية آجلة عبر جمع الحسنات في عملية حسابية جافة، يظن صاحبها أن بوسعه أن يربح إن تعامل مع عدل الله وليس رحمته وفضله، تطبيقا لفقه وتفاسير تتحدث له في هذا الاتجاه الذي يميل إلى ظاهر النصوص.

فبطبيعة الحال لا يكتمل جهد أو مشروع للنهضة والتنوير والإصلاح الديني في المنطقة العربية والعالم الإسلامي عموما من دون الاشتغال المضني على فكرة إصلاح المثل والقيم الدينية، وتقديم جهود نظرية وفلسفية متماسكة علميا في ما يخص طبيعة العلاقة بين الدين والأخلاق.
وبالتالي فإن من يرومون الإصلاح الديني عليهم أن يسعوا إلى بناء أخلاقية منفتحة تقوم على قيم الحرية والعقلانية والمساواة بين الناس على اختلافهم في أشياء كثيرة، وبلورة رؤية تثق أكثر بالإنسان، ولا ترضخ للتصورات والعطاءات الفقهية الجامدة والمغلقة، والتأويلات القانطة والمزعزعة حيال الإنسان، وتعترف بوجود أطروحات أخلاقية غير دينية، تنبع من الموروث الشعبي، حيث الحكم والأمثال والحكايات، ومن مختلف الفلسفات والتأملات والآداب والفنون ... إلخ.

على وجه العموم، يوجد نظرياً في الحقل الديني نمطان للتغيير على الأقل، الأول هو يقوم بها الأنبياء، بوصفهم شخصيات ملهمة، يعملون على تغيير الأخلاق العامة بما يقود إلى الإصلاح الاجتماعي، والثاني حركات اجتماعية تلتف حول أقطاب أو قادة روحيين يركزون على إطلاق ثورة روحية. وكلا الأمرين الأخلاق والروح هما ما ينقصان "التجربة الدينية" للمتزمتين والمتنطعين الذين يتعاملون مع القشور والمظاهر ويبحثون في الدين عما يبرر لهم سلوكهم المعوج، بعيدا عن "استفتاء القلوب" أو "مراجعة الضمائر" أو فهم "مقاصد الأديان".

وحتى لا يكون هذا مجرد أمنيات أو ينبغيات لا بد من تحديد مسالك حيال تحقيق هذا التصور للإيمان، وإعمال العقل، والالتفات إلى الأخلاق، بحيث ينتقل من صفحات الكتب أو قاعات الأكاديميين وحلقات المثقفين الضيقة إلى رحاب المجتمع، عبر التعليم ومنهاجه، والتثقيف وأدواته، والإعلام وقنواته الاتصالية، ومؤسسات المجتمع المدني ومشروعاتها.

6 ـ من الضروري أن تتضمن المناهج التعليمية مساقاً معتبراً للتربية المدنية، وهنا يركز مصطفى قاسم، في كتابه المهم"التعليم والمواطنة: واقع التربية المدنية في المدرسة المصرية"، من أجل تحقيق هذا على النقاط التالية:

أ ـ المواطنة الفعالة: وتعني المواطنة الواعية والفعالة والمسؤولة والأخلاقية التي ترسخ قيم الجماعية والتعاون والغيرية والشعور بالآخرين والديمقراطية.

ب ـ الصالح العام: وهنا من الضروري أن تعمل المؤسسات التعليمية على خلق المواطن الذي يخدم "الخير المشترك" ويسعى لتحقيقه، وتفتح نقاشا عميقا حول هذه المسألة، وتشجع الانخراط في الأعمال التطوعية والصداقة والانفتاح على مصالح الآخرين.

ج ـ خدمة المجتمع: وهي التجسيد العملي أو التطبيق لمبدأ تغليب "الصالح العام"، ولا يقتصر مردودها الإيجابي على المجتمع فحسب بل ينسحب على الفرد أيضا، إذ أن برامج تعلم الخدمة تدعم الإنجاز الأكاديمي والكفاءة والثقة بالنفس وتقدير الذات، وتنمية روح التعاطف مع الآخرين، وتعزيز مهارات حل المشكلات، بل وتفيد في فرص الحصول على الوظائف.

د ـ التعددية والتنوع: حيث توظف التربية في دعم التنوع الخلاق، والاختلاف الطبيعي والطوعي بين البشر، بما ينمي قدرة المتعلمين على التعايش والتسامح والاعتراف بالحقوق والحريات الأساسية ورفض كل أشكال العنصرية والتمييز.

ه ـ الهوية الثقافية: وهنا يجب تعزيز قيم الأصالة دون الانغلاق على الذات والانقطاع عن العالم والتصادم مع التقدم والوقوف ضد المعرفة والعلم والأخذ بالجديد والمستحدث والمفيد والنافع.

و ـ الثقافة السياسية: وذلك بترسيخ المعارف والقيم والتوجهات والتدابير التي تعزز المشاركة الإيجابية، والانتماء، وتفهم وجود الآخرين ومصالحهم، وتجنب العنف، والإيمان بالتغيير السلمي.

7 ـ من الضروري تحديد العقدى وتضييقه بعد أن أفرط أتباع الجماعات الدينية المتطرفة في توصيف أو تعيين ما هو من العقيدة، الأمر الذي وسع باب التكفير.

8 ـ يجب تحويل المؤسسات القائمة على التعليم الى بيئات تعليمية جاذبة ومحببة للمتعلمين، وتقوم على مبدأ التربية وفق قيم التسامح، والمواطنة، والعقل، والتفكير الحر، وعدم تقديس نصوص القدامى أو رفعها من مرتبة الرأي الى مرتبة النص الديني الملزم، ونبذ التعصب والعنف، واحترام الآخر، ومواجهته بالحوار والحجة، ونبذ العنف بما فيه العنف اللفظي، والاعتراف بالحق في التنوع والاختلاف، وإعلاء روح الجماعة والمصلحة العامة بدلًا من الأنانية والتطرف والانغلاق، وتنمية مفاهيم ومهارات النقد المعرفي والعلمي والتعلم الذاتى، ولا بد من أن تجد هذه المنظومة من القيم مكانها في البرامج الدراسية المقررة في المدارس والجامعات، من أجل أن تتشبع بها الأجيال الجديدة والقادمة، وتتحلى بها في التفكير والسلوك.

9 ـ يجب أن تلتفت المناهج التعليمية إلى تدريس عدد من المساقات أوردها تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم ـ اليونسكو، حمل عنوان:" ""دليل المعلم حول منع التطرف العنيف"، فيما يلي:

أ ـ المواطنة: السماح للمتعلمين بمعالجة مسائل الحقوق والمسؤوليات في مجتمعات متنوعة، والعدالة، والهوية، ومفهوم "الانتماء". كما يتيح هذا الموضوع فرصة لمناقشة مبادئ حقوق الإنسان الأساسية والحريات العامة.

ب ـ التاريخ: خاصة تعليم تاريخ الإبادة والفظائع الجماعية، بغية إشراك الطلاب في تأمل الآثار المدمرة للكراهية والعنصرية والعنف.

الأديان والمعتقدات، من أجل تعلم احترام التنوع الديني والمذهبي وتجنب الانزلاق إلى السجال العقائدي.
ج ـ اللغات: للتعرف على ثقافات الشعوب المختلفة وتطوير مهارات النقاش الشفاهي مع الآخرين.

د ـ الفنون: وذلك في سبيل تعزيز فهم وتثمين الشعوب والثقافات والتعابير الفنية المتنوعة والمختلفة عن تلك الخاصة بالمرء. يمكن رؤية الفن كلغة عالمية تربط المجتمعات والثقافات عبر الزمان والمكان. إنه يتيح الفرصة لمناقشة كيف أن النكران وتدمير التراث الثقافي والفني بسبب التطرف العنيف هو خسارة للبشرية جمعاء.

ه ـ حرية التعبير: ويمكن ربط ذلك بتعليم المواطنة لجهة حقوق الإنسان والفارق بين الخطاب الحر الشرعي وخطاب الكراهية.

و ـ المساواة بين الجنسين: لمنع العنف المترتب على النظرة الدونية للمرأة، أو التعامل معها بوصفها أساس الشرور الاجتماعية والأخلاقية.

10 ـ يستلزم تطوير التعليم ليس فقط الدراسة والبحث واستخراج النتائج بل إقتناع المسؤولين والعاملين فى قطاع التعليم بأهمية التطوير وضرورته وإشراك وسائل الإعلام فى توعية المواطنين بأهداف وأهمية هذا التطوير.
كان التعليم فى المجتمعات القديمة يقوم على أساس خدمة الأشخاص الذين يتعلمون ، فى حين اتسع مفهومه ليصبح المتعلم شخصا قادرا على التمكن من تحقيق مزايا لنفسه، ونفع المجتمع المحيط به، مما جعل المفهوم النفعى للتعليم هو الصفة التى يتميز بها التعليم الحالى.

إلى جانب هذا تبدو هناط ضرورة تربية أجيال من المتعلمين المستنيرين ورعاية المبدعين وزيادة جرعات المعرفة والعلم من خلال عدة عناصر أهمها القدرة على اتخاذ القرار الرشيد ، واجراء توازن بين العقل والعاطفة، والتحكم فى الذات ونفع الاخرين ، والتوازن بين ما هو كافى وما هو ضرورى مع التأكيد على أن يحدث أهم التوازنات بين الدين والتعليم لخدمة الأمة.