برنامج الطب النبوي في إحدى الجامعات الإسلامية.(أرشيف)
برنامج الطب النبوي في إحدى الجامعات الإسلامية.(أرشيف)
الثلاثاء 12 سبتمبر 2017 / 19:26

الطب النبوي وأصول الفقه

ما تداوى به رسول الله أو أمر بالتداوي به لا يمكن أن يكون من الواجب الذي يأثم تاركه، بل يدخل في باب المباحات - كما صرح بذلك الذهبي - التي يكون فيها المكلف مخيراً بين فعلها وعدم فعلها

في زمن فتوى "إكسبريس"، صارت الفتوى المُعلبة الجاهزة تصلك في كبسة زر، ولا شك أن التلقي المضطرب لقائمة "افعل" و "لا
تفعل" - التي هي باقية وتمدد - سيفرز تطرفاً فكرياً يقود إلى النظر بعين الاحتقار إلى كل من خالف التيار المُطيع الذي لا يتكبد عناء طرح الأسئلة. صرت ترى بعض الناس يجول في المجالس ليشرح حديث البخاري (أعفوا اللحى) ويطالب الناس بالامتثال لرأيه وإلا سيكونون من الشاذين المنحرفين جنسياً وأخلاقياً، ثم ينقل هذا الوصف الفاحش عن بعض المتشددين الذين هم على شاكلته، فهل يستحق الحليق كل ذلك اللعن والقذف مع أن مسألة حلق اللحية مختلف في حكمها وكبار الشافعية يرون حلقها مكروهاً وليس محرماً، قد لا يعلم من فسّق أغلبية المسلمين أن علماء الأصول كالغزالي - في كتابه المستصفى - قد جعلوا لصيغة الأمر 15 صيغة، فليس كل "افعل" تدل على الوجوب الذي يُلحق بصاحبه الخطيئة، فمن المقرر عندهم أن لصيغة افعل استعمالات متعددة في لغة العرب، فهي تطلق على:

1- الوجوب في مثل قوله تعالى: ﴿أقيموا الصلاة﴾
2- الندب كقوله تعالى: ﴿فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً﴾
3- الإرشاد كقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه﴾
4- الإباحة كقوله تعالى: ﴿وإذا حللتم فاصطادوا﴾
5- التأديب كقوله لعمرو بن أبي سلمة: (كل مما يليك)
6- الامتنان كقوله تعالى: ﴿كلوا مما رزقكم الله﴾
7- الإكرام كقوله تعالى: ﴿ادخلوها بسلام آمنين﴾
8- الحجر والتهديد كقوله: ﴿اعملوا ما شئتم﴾
9- التسخير كقوله: ﴿كونوا قردة خاسئين﴾
10- الإهانة كقوله: ﴿ذق إنك أنت لعزيز الكريم﴾
11- التسوية كقوله: ﴿فاصبروا أو لا تصبروا﴾
12- الإنذار كقوله: ﴿كلوا وتمتعوا﴾
13- الدعاء كقوله تعالى: ﴿رب اغفر لي ولوالدي﴾
14- التمني كقول الشاعر: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي.
15- بيان كمال القدرة كقوله تعالى: ﴿إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون﴾

فإذا خالف أحد الناس قولاً أو فعلاً للنبي ص قامت عليه الدنيا ولم تقعد، ووُجهت له سيول الطعون والاتهامات، وقد يتعرض للاستتابة لإنكاره آية (ما ينطق عن الهوى)، لذلك قمت باستقراء مجموعة من الكتب الأصولية القديمة والحديثة من أجل البحث عن موطن المشكلة، فوجدت بداية الحل، فلو ضربنا مثالاً بأول متن يحفظه طالب الأصول وهو(متن الورقات) للجويني، والذي يذكر فيه أحكام التكليف الخمسة وهي الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحظور، فيتبين أن هذه الأحكام ليست على درجة واحدة من القوة، فحديث البخاري (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج) فيه أمر واضح لكل شاب مقتدر أن يتزوج، إلا أنه عُرف بالعقل والتاريخ أن النبي ص لم يلزم كل شاب مقتدر بالزواج.

يقول علماء الأصول أن المندوب ينقسم إلى سنة مؤكدة وسنة غير مؤكدة وسنة عادة، وسنة العادة هي ما ورد في غير أمر التعبد كصفة أكله وشربه ونومه ولباسه ومشيه وركوبه للدواب، فالاقتداء بالنبي في ذلك لا يعد من صميم الدين، والأولى أن يتابع المؤمن عُرف مجتمعه في الثياب والأكل والشرب حتى لا يكون شاذاً بينهم، وذكر العلماء حديث البخاري (لا آكل متكئاً) وأدخلوه في سنن العادة التي لا يترتب عليها وجوب ولا حتمية، فالإنسان له حرية الأكل بالطريقة التي يريدها، وأدخل بعض العلماء في المكروه الكي لقوله عليه السلام (ما أحب أن أكتوي)، وذكروا أيضاً في المكروه الإسراف لآية: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا)، ومع أن الآية تنهى نهياً صريحاً عن الإسراف في الأكل والشرب إلا أن بعض العلماء لم يحرموا الإسراف وإنما وضعوه في خانة المكروه.

هنا نأتي إلى بيت القصيد فنقول إن ما تداوى به رسول الله أو أمر بالتداوي به لا يمكن أن يكون من الواجب الذي يأثم تاركه، بل يدخل في باب المباحات - كما صرح بذلك الذهبي - التي يكون فيها المكلف مخيراً بين فعلها وعدم فعلها، لاسيما وأنها من سنن العادات التي اعتادها العرب في زمانه وقبل زمانه، فكما أكل رسول الله من أكلهم وشرب من شربهم ولبس من ملابسهم فكذلك تداوى من طبهم، فلذلك عندما قدموا له لحم الضب وامتنع عن أكله قال: (كلوا، فإنه حلال ولكنه ليس من طعامي)، لذلك أشار الأصوليون إلى أن اختلاف تصرفات رسول الله القولية والفعلية والتقريرية والتي قد تصدر بصفته رئيساً أو قاضياً، فعندما يقول (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) فهذا الحديث لا يمكن العمل بعمومه في هذا العصر وإلا لما كان للدولة من سلطة على الناس، لذلك جعله أبو حنيفة من الأحكام السياسية التي لا يُعمل بها بدون إذن الحكومة.

من هنا ظهر الخلاف بين العلماء في أحاديث الطب النبوي فترى ابن خلدون يرى أن أحاديث الطب النبوي لا تندرج تحت بند الشرائع السماوية والإلهية، فإذا ظهر لنا اليوم أن علاج التهاب الصدر هو المضاد الحيوي، فلا يلزمنا أن نستخدم دواء من عصر البابليين أو الرومان أو العرب لأنه ظهر لنا ما لم يظهر لهم، وسيظهر لمن يأتي بعدنا أدوية أخرى ستلقي بعلاجاتنا اليوم إلى سلة النسيان كما فعلنا مع أغلب أدوية من سبقونا، ولا ننسى حديث (أنتم أعلم أمور بدنياكم) الذي رواه مسلم أن رسول الله مر بقوم يُلقحون النخل فقال: لو لم تفعلوا لصلح، قال الراوي: فخرج شيصاً أي تمراً رديئاً، فمر بهم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا، فقال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم، إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إن حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به) وبوّب النووي هذا الحديث بقوله:

(باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سيبل الرأي)

فإذا كان رسول الله يقول لنا وللناس إننا أعلم بأمور دنيانا وأننا أعلم بما يصلح دنيانا رغم قوله تعالى (وما ينطق عن الهوى)، فلماذا يصر البعض على قلب الحديث وجعل رسول الله أعلم منا في أمور دنيانا وأعلم منا فيما يصلح دنيانا؟ أوليس الطب والزراعة والصناعة والعلوم الطبيعية من أمور دنيانا التي جعل النبي المتخصصين فيها – كالمزارعين - أعلم منه فيها؟ أو ليست تفاصيل الأمراض والأدوية وفعاليتها وجرعاتها ومضاعفاتها واستخداماتها من أمور دنيانا التي نحن أعلم بها من رسول الله؟ بل إن النبي قد يخطئ في حكمه على ظاهر حال الناس كما يخطئ غيره، فقد روى مسلم دعاءه: (اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر، وإني قد اتخذت عندك عهداً لن تخلفنيه، فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة).

يتبع ٣