الفيلسوف جان-بول سارتر.(أرشيف)
الفيلسوف جان-بول سارتر.(أرشيف)
الأربعاء 13 سبتمبر 2017 / 20:44

تاريخ موجز للحرية

سبينوزا يقر بأن الإنسان غير حر، فهو بضعة من الطبيعة، ويتحرك بانفعالات خارجية

كلمة "الحرية" لها معان شديدة الاختلاف، فنجد عند اليونان، في العصر السابق على سقراط، أن فكرة الحرية ارتبطتْ بفكرة المصير، وبفكرة الضرورة، وبفكرة الصدفة. في العصر الهوميروسي (القرن الحادي عشر والعاشر قبل الميلاد) كان لفظ "حر" يُطلق على الإنسان الذي يعيش بين شعبه، وعلى أرض وطنه دون أن يخضع لسيطرة أحد عليه، مقابل "أسير الحرب" الذي يعيش في الغربة، وتحت سيطرة سيد له. وفي العصر التالي لعصر هوميروس، صارتْ الحرية ترتبط ب "المدينة"، فالمدينة حرة، ومَنْ يعيش فيها، فهو حر أيضاً. في المدينة يسود القانون، والقانون يوفق بين القوة والحق، والمقابل للحر، ليس العبد، بل الغريب، أو الأجنبي، أي مَنْ ليس يونانياً. ثم جاء سقراط، فعدّل المعنى، وعرّف الحرية بأنها فعل الأفضل، وهذا يفترض مقدماً معرفة ما هو الأفضل، وهكذا اتخذتْ الحرية المعنى الأخلاقي، وفقاً لمعايير الخير. ومع أرسطو يبدأ المعنى الأدق للحرية في الظهور، إذ هو يربطها بالاختيار، ويقول بأن الاختيار ليس في المعرفة فقط بل وأيضاً في الإرادة، ولهذا يعرّف الاختيار بأنه اجتماع العقل والإرادة. وعند أفلاطون الحرية هي وجود الخير، والخير هو الفضيلة، والخير محض، ويُراد لذاته، ولا يحتاج إلى شيء آخر، والحر هو مَنْ يتوجه فعله نحو الخير.

وفي العصر الحديث، الحرية عند اسبينوزا هي الخلو من القسر، لأن هذا الشيء يُدعى حراً، إذا كان يوجد لضرورة ماهيته وحدها. لكن اسبينوزا من جانب آخر، يقر بأن الإنسان غير حر، فهو بضعة من الطبيعة، ويتحرك بانفعالات خارجية. وعند ليبنتز الحرية تكون أوفر كلما كان الفعل صادراً عن العقل، وتكون أقل كلما كان الفعل صادراً عن الانفعال. وعند التجريبي جون لوك، الحرية هي أن نفعل أو لا نفعل بحسب ما نختار أو نريد. ثم جاء إمانويل كانط، فعرّف الحرية بتعريفين، أحدهما سلبي، والآخر إيجابي. فالحرية يمكن أن تعرّف سلبياً بأنها خاصية الإرادة في الكائنات العاقلة، لأن تفعل مستقلة عن الأسباب الخارجية. فبينما الضرورة الطبيعية ترغم الكائن غير العاقل على الخضوع للأسباب الخارجية، نجد أن حرية الكائن العاقل تمكنه من أن يفعل مستقلاً عن الأسباب الخارجية. أمّا التعريف الإيجابي، فهو أن الحرية هي تشريع الإرادة لنفسها وبنفسها، والتشريع يعني القوانين، أي أن الإرادة الحرة قبل ممارسة الحرية، تضع قانوناً لتلك الحرية، فالحرية لا تكتسب شكلاً إلا بروح القوانين. وعند شوبنهور كانت الحرية تنبع من إرادة الفرد، ثم ابتلعتْ الإرادة، الفرد وحريته، وأصبح العالَم إرادة. وعند هيجل الحرية، هي قيام الذات بنفسها، وعدم الاعتماد على الغير، ونسبة الذات إلى ذاتها.

وفي الوجودية لعبتْ الحرية دوراً أساسياً. فعند هيدجر الحرية هي القدرة التي بها ينفتح الموجود على الأشياء، وهو يكتشف الوجود. وبلوغنا للأشياء ليس ممكناً إلا لأننا نملك القدرة على كشف الوجود. والحرية هي التي تؤّمن التوسط بين عالَم الوجود وعالَم الأشياء. وأن يكون الموجود حراً، هذا يعني أن يكون قادراً على أن يضع عالَم الأشياء موضع تساؤل. والحرية هي ما يهيء للموجود أن يوجد، وهي تنطوي دائماً على المُخاطَرة بالوقوع في الخطأ. وتبعاً لهذا فإن ماهية الحقيقة تجد في الحرية مقامها الأصيل. إن ماهية الحقيقة هي الحرية، والإنسان لا يوجد إلا من حيث هو مملوك للحرية. ثم يأتي سارتر أشهر مَنْ تغنى بالحريات، وهو يؤكد أن الحرية هي الشرط الأول للعقل، ومع هذا التصقتْ الانفعالات بحريات سارتر، ولأنه كتب روايات سيئة مثل "دروب الحرية"، بدا حديثه عن العقل أضعف من حديثه عن الانفعال. وفي كتابه "الوجودية نزعة إنسانية"، قال سارتر بأنه ما دام الوجود يسبق الماهية، فإن الإنسان حر، الإنسان حرية. وبشيء من العدل، لم تُسْحَب أفكار فيلسوف، إلى مزيد من المُراهَقَة، ومزيد من الشهرة، أكثر من أفكار سارتر. وكافح سارتر كي ينفي الانفعالات عن فلسفته، وكأنه يدفع عن نفسه تهمة ما، فقال مثلاً: الوجودي لا يعتقد في سلطان الانفعال الوجداني. لكن السيل الجارف من المراهقين ألصقوا تهمة الحرية الانفعالية أكثر فأكثر، بسارتر. فتحول سارتر وسيمون دو بوفوار والحريات إلى موضة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. وكان الشاب المراهق يُطلق شعره وسوالفه وحرياته على مخاليق الله دون سبب واضح.