من عروض أزياء كريستيان ديور. (أرشيف)
من عروض أزياء كريستيان ديور. (أرشيف)
الجمعة 15 سبتمبر 2017 / 19:59

الأزياء بوصفها نسقاً ثقافياً.. كسر المركزيات والاحتفاء بالهوامش!

دراسة تواريخ الأزياء العالمية تسهم بصورة كبيرة في تسليط الضوء على سرديات الجماعات البشرية المختلفة من خلال علاقة الزيِّ بالتاريخ والثقافة

حضرتُ قبل حوالي أسبوعين احتفالية دار الأزياء الفرنسية كريستيان ديور في باريس بمناسبة مرور سبعين عاماً على تأسيسها. وقد احتفت هذه الدار العريقة بالحدث بما يليقُ به من توثيقٍ كاملٍ لكلّ ما يتصل بأزياء الدار منذ النشأة وصولاً إلى الوقت الحاضر. وهكذا اشتمل هذا التوثيق على عرض الأزياء في مراحلها المتنوعة وعلى عرض الأفلام التي شاركت فيها نجمات يرتدين أزياء هذه الدار وكذلك عرض بيوغرافي مدعم بالصور والرسائل والوثائق لحياة مؤسِّس الدار كريستيان ديور.

ولم يكن العرض تقليدياً وإنَّما احتوى في جانب منه على عروض تفاعلية أضفت على العرض توهجاً جاذباً. الذي لفت انتباهي في هذه الاحتفائية فكرة التنوَّع الثقافي التي ميَّزت أزياء كريستيان ديور من خلال الإفادة من الحضارات والثقافات المتنوعة في تصاميم تبرز بالفعل الاستثنائية الحقيقية لتنوع الثقافات الكونية، وبالتالي لم ترتكز الدار على تصاميم أوروبية بحتة وإنَّما سعت منذ نشأتها الأولى إلى إبراز تلك التعدديات الثقافية في انعكاسها على الأزياء، وبالتالي سنجد أزياء متنوعة تنتمي إلى قارات العالم كلها.

اجتذبت عوالم الأزياء بوصفها تمثيلات ثقافية عدداً كبيراً من الباحثين والنقاد، وأشير هنا إلى بعض الأسماء مثل رينهارت دوزي ورولان بارت وماري ستيلمان وغيرهم. ولولعي الشخصي بكل ما يتصل بتواريخ الأزياء اطلعتُ على سير بعض المصممين العالميين واجتذبتني بعض السير دون سواها، ومنها سيرة المصممة الفرنسية الشهيرة كوكو شانيل التي كانت الأزياء بالنسبة لها عوالم اصطنعت فيها أنوثة معينة خرجت فيها عن الإطار الذي سبقها. فقد وُجِدَت كوكو شانيل في حقبة تاريخية انتقالية أعقبت الحرب العالمية الأولى ودخول النساء المصانع مما اقتضى التخلي عن الملابس الطويلة جداً. وهكذا أدخلت البناطيل الطويلة والجلد وزيَّنت المنظر بعقودٍ من اللؤلؤ لخلق أنموذج جديد للمرأة العصرية، وهو أنموذج يختلف بالكامل عن أزياء المرأة الأوروبية وبالتحديد الفرنسية في أواخر القرن التاسع عشر.

إنَّ دراسة تواريخ الأزياء العالمية تسهم بصورة كبيرة في تسليط الضوء على سرديات الجماعات البشرية المختلفة من خلال علاقة الزيِّ بالتاريخ والثقافة. كذلك يفيدنا التأمل في اتجاهات دور الأزياء العالمية على تسليط الضوء كذلك على القيم الثقافية الكبرى التي توجِّه تلك الدار أو غيرها أو بمعنى آخر رؤيتها الثقافية لعلاقة الزيّ بالكون كله في تنوعاته واختلافاته. فدور الأزياء الذكية هي تلك الدور التي لديها تلك الفلسفات العميقة وتلك الرؤى الثقافية كي يكون الزيّ جسرًا ثقافيًا للتواصل بين الشعوب؛ فعصر المركزيات الثقافية الكبرى انتهى ولم نعد أمام مركزيات وهوامش مطلقًا. وكما بدأتُ مقالي بمثال سأنهيه بمثال آخر فخلال حضوري عرضاً مسرحياً في مسرح جلوب شكسبير(الملك لير) في العاصمة البريطانية لندن لفت انتباهي أن هذه المسرحية رغم تمثيلها في المسرح التاريخي الذي يعود زمن تأسيسه إلى قرابة أربعة قرون، ولكنها مع ذلك خرجت عن الكلاسيكية واحتفت بفكرة التنوع الثقافي. فبعض الممثلين كانوا بريطانيين من أصل هندي وآخرون كانوا بريطانيين من أصل إفريقي، وكل ذلك يتم في مسرح شكسبير العريق احتفاءً بتفوق فكرة التنوع الثقافي وكسر المركزيات الأوروبية الثقافية!