رواية "طبع في بيروت" لجبور الدويهي.(أرشيف)
رواية "طبع في بيروت" لجبور الدويهي.(أرشيف)
الإثنين 18 سبتمبر 2017 / 20:13

طبع في بيروت

ليست "طبع في بيروت" رواية تاريخيّة. إنها شبكة من لمحات وتقاطعات وتعليقات تنتشر على مدى يتهيكل وينبني، لكن الرقعة الّتي لا نجد فيها سوى ظلال الأشخاص والأحداث والتواريخ والأزمنة لا نسمع منها سوى إيقاع التاريخ

في يدي الطبعة الثانية لرواية جبوّر الدويهي "طبع في بيروت" ولم تمر سوى أشهر على الطبعة الأولى. هذا في الظرف الراهن، الذي يشكو فيه النصّ المطبوع من أزمة حقيقيّة، نجاح حقيقي بل ومفاجئ. رواية جبوّر الدويهي، ولو حملت هذا العنوان، ليست رواية تاريخيّة وإن توسّلت بالتاريخ وتذرّعت به، ليس في العنوان فحسب بل في المتن أيضاً. ليست رواية تاريخيّة لكنّها رواية فريدة في موضوعها، فرادة تكاد تكون شاملة. إذا نحن تأمّلنا في غرضها وشخوصها تبدّت هذه الفرادة بوضوح. في وسعنا القول إّننا لا نجد هذين فوراً. الغرض قد يكون تاريخياً لكنّه ليس كذلك. فمن الصعب أن نجد في الرواية تاريخ الطباعة في لبنان وهو حقّاً مميّز في التاريخ اللبناني لكنّ مكانه تاريخ الاقتصاد الّذي قلّما تتناوله الرواية.

لبنان هو مطبعة العالم العربي في قول مشهور يقرّر أن مصر تكتب ولبنان يطبع والعراق يقرأ. رواية الدويهي تكاد تنحصر في فترة انتقال الطباعة من الصناعة اليدويّة إلى الصناعة الإلكترونيّة. هذا تقريباً كلّ ما تتناوله الرواية من تاريخ الطباعة، وهو على أهميّته لا يكفي لتكون الرواية تاريخيّة. مع ذلك، فإنّ المطبعة هي عالم الرواية. الرواية تبدو في ظلّها، فشخوص الرواية، إذا جاز تسميتها شخوصاً، هي أيضاً فريدة حاضرة في عالم المطبعة، إنّها بالدرجة الأولى مجرّد كتاب. ففريد أبو شعر الّذي تبدأ الرواية بذكره وتظلّ تتعرّض له هو ليس أكثر من كتاب مكتوب يبحث عن مطبعة لا يلبث أن يجدها في مفارقة، هي من أجمل ما تحويه الرواية. أمّا بيرسيفون الشخصيّة ذات الحضور القوي في الرواية فإن جانباً من حضورها يعود إلى هذا الكتاب الّذي تكلّف من يطبعه بالأسلوب اليدوي القديم ولنسخة واحدة فحسب كرمى لصاحبه الّذي تكنّ له عاطفة غير واضحة نجد تعبيراً عنها مرّة واحدة. إنّها علاقة الحبّ الوحيدة والخاطفة والموحية جداً، في عالم برجوازية جديدة عامر بالآلات والتفلت والفساد والتزوير والمال.

بالإضافة إلى كتاب فريد أبو شعر مع صاحبه الّذي، بالطريقة نفسها التي تجري بها حياته كلّها، ينتهي إلى الاعتقال من قبل "الجرائم الماليّة" في الإنتروبول، بالإضافة إلى الكتاب الغامض الّذي لا نعرف فحواه، فهو الكتاب بوجه عامّ، الكتاب بالمطلق، هناك المطبعة الجديدة أرقى مطبعة في العالم وأحدثها والّتي تنشط لأنّها تعمل في تزوير اليورو الفنلندي. هكذا نعثر في الرواية على شخوص مختلطة وعالم كامل مختلط. نعثر على كتاب وآلة وعلى شخصيات من أوساط مختلطة. وعلى زمان مختلط من المطبعة اليدويّة إلى عصر فيس بوك.

هذه المساحة من التفاصيل والتعليقات وهذا الشتات من الموضوعات والجزئيات يستوي في شكل متسق، بل في أنساق، فنحن هكذا أمام بعثرة لا تتيه في الفوضى. إننا أمام نظام حقيقي، بل أمام رواية معنيّة قبل كلّ شيء بأن تنتظم في رواية، كما هي معنيّة أوّلاً بأن يكون لها الشكل الروائي وأن تتشابك جزئياتها في قوام لا يصدر إلاّ عن قدرة واضحة على التأليف والتركيب. قدرة تجعل نهر الجزئيات والملاحظات تسير في مجرى واحد منتظم.

ليست "طبع في بيروت" رواية تاريخيّة. إنها شبكة من لمحات وتقاطعات وتعليقات تنتشر على مدى يتهيكل وينبني، لكن الرقعة الّتي لا نجد فيها سوى ظلال الأشخاص والأحداث والتواريخ والأزمنة لا نسمع منها سوى إيقاع التاريخ. نكاد لا نجد في هذه الرواية سوى هذا الخليط المتفاوت المتفرّع المتعدّد الجهات والفضاءات الذي لا يتخّذ سوى التاريخ مثالاً وفضاء. إذا لم تكن رواية الدويهي مغامرة أبطال وصراعات فلأنّ البطل فيها هو الحقبات وما يتخلّق فيها. لو شئنا أن ندمج هذه التفاصيل والملاحظات والأخبار والسير لقلنا أنّها تتفاعل بقوّة الزمن المتفاعل رغم تعدده وتفاوتاته ورغم سيره وجريانه. ليست "طبع في بيروت" رواية تاريخيّة، لكنّ التاريخ هو إلهامها الخفيّ والتاريخ هو بطلها الضمني والرواية نفسها هي أنشودة هذا التاريخ.