رسم يجسد مظهر من الثورة الروسية.(أرشيف)
رسم يجسد مظهر من الثورة الروسية.(أرشيف)
الأربعاء 20 سبتمبر 2017 / 20:23

تبخّر المسألة الاجتماعيّة

المسألة الاجتماعيّة لم تعد تجد من يحضنها بأفق ديمقراطيّ. وهذه كارثة كبرى يدفع العالم كلّه ثمنها الباهظ اليوم تراجعاً مثلّث الأضلاع: في سعادة البشر وازدهارهم، وفي السلام العالميّ، وفي الديمقراطيّة نفسها

سيُحتفل، هذا العام، بالذكرى المئويةّ لثورة أكتوبر الروسيّة التي وضعت البلاشفة الشيوعيّين في سدّة الكرملين. والحال أنّ كلمة "احتفال" ليست في محلّها. فالنهاية البائسة التي انتهت إليها التجربة الشيوعيّة لم يبق متحسّرون كثيرون عليها، سيّما وقد تقلّصت الأحزاب الشيوعيّة في كلّ مكان تقريباً في العالم، بما في ذلك روسيا نفسها.

والمعروف أنّ الصين التي انتصرت فيها، هي الأخرى، ثورة شيوعيّة في 1949، أنتجت للعالم قلعة شيوعيّة تزايد على موسكو في تشدّدها، خصوصاً بعد خلاف الجبّارين الشيوعيّين في أوائل الستينيات. هكذا غدا البلد الأكبر بسكّانه شيوعيّاً، فضلاً عن البلد الأكبر مساحةً الذي كانه الاتّحاد السوفييتيّ.

صحيح أنّ الشيوعيّة الصينيّة لم تسقط كما سقطت الشيوعيّة الروسيّة الأمّ. ذاك أنّ حزب ماو تسي تونغ لا يزال يحكم الصين، كما لا تزال الشعارات والصور التي كانت مرفوعة في الماضي مرفوعة في يومنا هذا. لكنّ الصين باشرت منذ أواخر السبعينات، في ظلّ دينغ هشياو بنغ، خروجها عن الاقتصاد الاشتراكيّ، محتفظة بالإيديولوجيا والنظام السياسيّ الاشتراكيّين. أمّا الآن فينصبّ اهتمامها الأوّل على مشروعها الهيوليّ لـ "إحياء طريق الحرير القديمة" والذي يُفترض، في حال نجاحه، أن يضمن لها حصّة الأسد في التجارة الدوليّة. 

هكذا لم يبق من الأنظمة الشيوعيّة سوى جثثها الموزّعة ما بين الكاريكاتور الكوريّ الشماليّ والعذاب الكوبيّ الحائر والمحيّر.

لقد حُسم أمر الاشتراكيّة – الشيوعيّة وأُقرّ بنهايتها، فيما بات النقاش الجدّيّ يتركّز حول سؤال آخر: أيّة رأسماليّة نريد: تلك المتوحّشة التي دخلت وأدخلت العالم كلّه، منذ 2008، في أزمة كبرى ساهمت في صعود الشعبويّات القوميّة المهدّدة للديمقراطيّة الليبراليّة، أم تلك التي تملك بُعداً اجتماعيّاً وحساسيّة أخلاقيّة وسياسيّة حيال من هم أضعف وأفقر؟

وهذا النقاش ينبغي أن تنتصر فيه الرأسماليّة الثانية على الأولى وإلاّ مضى عالمنا يسير في طريق بالغة الوعورة.

لكنّ الراهن أنّ وصول الأمور إلى ما وصلت إليه ذو علاقة وثيقة بالطريقة التي تمّ التعامل فيها مع انهيار الاتّحاد السوفييتيّ وشيوعيّته. يومذاك تصرّف الغرب وكأنّه بدأ يعفي نفسه من تبنّي سياسات الرفاه التي اتّبعها بعد الحرب العالميّة الثانية بقصد الحدّ من نموّ الأحزاب الشيوعيّة والمطالب الراديكاليّة. هكذا انطلق الاقتصاد النقديّ والتقشّفيّ على حساب الدولة وانكماش تقديماتها، في ما بدا وكأنّه ثأر، لا من الاتّحاد السوفييتيّ والشيوعيّة، بل من المسألة الاجتماعيّة برمّتها.

في الآن نفسه، لم يُقدّم هذا الغرب لروسيا ما بعد السوفييتيّة، المفلسة والمنهارة، أيّ مشروع للإنقاذ يشبه مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا ما بعد الحرب العالميّة الثانية. وهذا فيما تولّت المصارف الغربيّة، لا سيّما الألمانيّة منها، مهمّة شفط الثروات التي نهبها الأوليغارشيّون والمافيويّون الجدد في روسيا إلى الخارج. وإلى ذلك قرّر حلف شمال الأطلسيّ (الناتو)، في عهد بيل كلينتون، أن يتمدّد شرقاً، بعدما ساد الانطباع بأنّ الحلف نفسه سوف يُحلّ، إذ انتفى سبب وجوده بنهاية الحرب الباردة. والتمدّد هذا إنّما أثار أسوأ المخاوف لدى الروس ووفّر لرجعيّي روسيا، من قوميّين وشيوعيّين، ذرائعهم لمحاربة الليبراليّة والتحوّل الديموقراطيّ في بلدهم.

قصارى القول أنّ المسألة الاجتماعيّة لم تعد تجد من يحضنها بأفق ديمقراطيّ. وهذه كارثة كبرى يدفع العالم كلّه ثمنها الباهظ اليوم تراجعاً مثلّث الأضلاع: في سعادة البشر وازدهارهم، وفي السلام العالميّ، وفي الديمقراطيّة نفسها.