مارة من جنسيات مختلفة في دبي.(أرشيف)
مارة من جنسيات مختلفة في دبي.(أرشيف)
الجمعة 22 سبتمبر 2017 / 20:00

تنوّع

هناك من اعتادوا على أن يروا لوناً واحداً –وأعني ذلك بالمعنيين الحرفي والمجازي-، حتى حُرموا متعة إدراك بهاء قوس القزح وتألقه

دعتني الصدفة -وفضولي المرضي- في إحدى زياراتي إلى أوروبا إلى أن أدردش مع بائع أرجنتيني مغترب. راح يسألني بطبيعة الحال عن موطني ومسقط رأسي، فأخبرته بفخر شديد بأني أتشارك الأرض مع ما يربو على 100 جنسية باختلاف أعراقها ومعتقداتها وثقافاتها.

"نحن في الأرجنتين نحظى بالتنوّع أيضاً"، رد بتحذلق.

شككت في مزاعمه. فبعيداً عن الاحصائية التي تؤكد أن 90% من الأرجنتينيين بيض البشرة، بالله عليكم، هل سبق لكم أن رأيتم لاعباً أسود يرتدي القميص السماوي الشهير بجوار ميسي؟

أكمل وقد التمعت عيناه الزرقاوان، "نعم، بلدي خصبة بالتنوّع. فأنا –مثلاً- أنتمي إلى خليط من الأصول الإسبانية، والإيطالية والفرنسية".

لولا حيائي الشرق أوسطي المُصطنع لانفجرت ضحكاً.

كان الأمر أشبه –واعذروا مثالي النهم- بأن تحمل صحناً اشتمل على بعض أصناف الجبنة، فتحاول أن تباري ببياضها المضجر مائدة ضخمة غصت بما لذ وطاب من مأكولات ومشروبات.

فأتدرّب على بعض المفردات الأمهرية مع مدبّرة المنزل الأثيوبية، وأمضي إلى مقهاي المفضل، فأتسلّم الكابوتشينو من بوتانية لا زالت تستغرب معرفتي لبلدها الصغير. ثم أهرع إلى العمل، فأكدح على وقع موسيقى من اللهجات العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج، وأخيراً وليس آخراً، أخرج لأقضي مسائي مع صديقة مهاجرة تشاركه جذوره الضاربة في العالم القديم. ولكني آثرت الصمت.

هناك من اعتادوا على أن يروا لوناً واحداً –وأعني ذلك بالمعنيين الحرفي والمجازي-، حتى حُرموا متعة إدراك بهاء قوس القزح وتألقه. وسأحاول أن أكون متفهمة وحليمة، وأقول بإن ذلك لم يكن مبدئياً بما كسبت أيديهم؛ فكلنا أبناء الظروف التي وُلدنا وترعرعنا فيها، ومن لم يرضع التعددية الثقافية والدينية والعرقية طفلاً قد يشق عليه تمييزها في الكبر.

ولكننا ها هنا نرفل في بركة عظيمة، وإن كنا لا نقدّر قيمتها أحياناً، بل ونتناساها، ونقابلها بالاستياء والتبرّم والانتقاد.

فأن نسعى إلى أن نوضّحها إلى هؤلاء المتعامين عن الألوان باختيارهم، ونشرحها، ونثني عليها، ونبهرجها، لهو انتقاص لها، وحط من مكانتها السامية. فكأننا نخبرهم دون قصد منا بأن حياتنا ستستحيل إلى صورة رمادية كئيبة إن لم يعترفوا حضراتهم بجمالها، أو يتمنوا السير على خطاها!

وجحودنا بنعمة الله أشد وأنكر حين نبررها وندافع عنها أمام هؤلاء المتعصبين لخلو دنياهم من الألوان، فتارة نقسم لهم بأن أطياف قوس قزح الأخرى لا تبدّل لوننا الأصلي، والذي من المفترض به أن يجعلنا فوق الجميع، وتارة نثبت لهم بأنها لا تتقصّد طمسنا، فقط لنريح عقولهم المضطربة بالعنصرية والطائفية وكراهية الأجانب.

وكل ذلك مضيعة محزنة للوقت والجهد، ولقدرتنا على الأمل بغد أفضل.

هل سيضرنا أن ندع لهم نسختهم من التنوّع والتعايش والتآخي -مهما بدت تحت الصفاء النسبي لعدستنا مشوّهة متسخة- لنتنعّم بنسختنا؟