من كتاب  "طفولة بالمتوسط المسلم". (أرشيف)
من كتاب "طفولة بالمتوسط المسلم". (أرشيف)
الخميس 28 سبتمبر 2017 / 19:24

نهاية عالم كوزموبوليتي..طفولة يهودية بالمتوسط المسلم

لم تكن كلمة "فرنسيون ممتازون" التي أطلقها جان لوك علوش تنطبق على يهود الجزائر جميعهم؛ فعدد منهم كان خارجًا عن هذا التصنيف الاستعماري كما يذكر هذا الكتاب انخراط يهودية جزائرية في النضال ضد الاستعمار الفرنسي

في أحد مقاهي العاصمة الفرنسية باريس في ضاحية ريفولي جرى حديث بيني وبين سيدة فرنسية ستينية عرّفت نفسها بأنها زبونة قديمة جدًا ومن رواد هذا المقهى على مدى سنوات طويلة حيث تجلس على الطاولة ذاتها، ومع استرسالها في الحديث قالت لي: أنا يهودية وأصلي من تونس وبالتحديد من جربة ..أنا يهودية ولكن لا علاقة لي بإسرائيل. قلتُ لها : أنا أحترم الديانات السماوية الثلاث وأعرف الفرق بين اليهودية بوصفها ديانة والصهيونية بوصفها عقيدة سياسية وأن لدينا في دول الخليج العربية نماذج رائعة رائعة للتعايش السلمي بين إثنيات وديانات متعددة خاصة في دولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين. قالت لي: بالفعل أنا أعرف أن لديكم في الخليج هذا الانفتاح الثقافي والحضاري وتلك المواطنة الثقافية. كان كلامها مزيجًا بين الإنجليزية والعربية باللهجة التونسية التي لا تزال تذكر بعض مفرداتها التي تأسّست لديها منذ طفولتها. كانت تتحدث بحنين عن أماكن طفولتها في تونس وعن رحلاتها إلى المملكة المغربية خاصة مدينتي الصويرة ومراكش.

تذكرتُ هذا الحوار وأنا أقرا كتابًا استثنائيًا في غاية الأهمية الثقافية وهو كتاب "طفولة بالمتوسط المسلم، من مكان إلى آخر، شهادات غير منشورة جمعتها ليلى صبَّار وترجمها محمد أكَرو". وهذا الكتاب يشتمل على شهادات للانتجلنسيا الثقافية ليهود تجمعهم انتماءاتهم إلى دول حوض البحر الأبيض المتوسط، وقد جاؤوا من بلدان متعددة منها الجزائر وتونس والمغرب والقاهرة وبيروت واسطنبول. هم أربعة وثلاثون مثقفًا يهوديا يحكون سيرتهم الطفولية في تلك البلدان في حقبة زمنية امتدت من 1930 إلى 1960 ليحكوا عن مدن كوسموبوليتانية كانت تحتفي بالتعدديات الثقافية في حقبة استعمارية لبعض تلك الدول خاصة الدول المغاربية مثل الجزائر وتونس والمغرب.

يختلف هؤلاء المثقفون اليهود الذين هاجروا إلى بلدان المنفى في سردياتهم الذاتية وفقًا لمرجعياتهم الاجتماعية والثقافية؛ فقد مثل بعضهم وخاصة يهود الجزائر في الحقبة الاستعمارية الفرنسية مواطنين فرنسيين وبالتالي كانوا يمثلون مع الفرنسيين المستعمرين طبقة النخبة من البورجوازية الصاعدة آنذاك، وكانت المناهج الفرنسية تصر على اندماجهم التام في هويتهم الجديدة دون أية تفرقة إثنية أو عرقية. ومن هنا تكتسب سرديات هؤلاء نوعًا من التمايز والشعور بالآخرية بالنسبة إلى زملائهم الجزائريين العرب المسلمين الذين كانوا معهم في المدرسة إذ كان هؤلاء يعيشون في مدن الصفيح في حين يعيش زملاؤهم اليهود مع أقرانهم الفرنسيين في المدينة البورجوازية. ولكن لم تكن كلمة "فرنسيون ممتازون" التي أطلقها جان لوك علوش تنطبق على يهود الجزائر جميعهم؛ فعدد منهم كان خارجًا عن هذا التصنيف الاستعماري كما يذكر هذا الكتاب انخراط يهودية جزائرية في النضال ضد الاستعمار الفرنسي الأمر الذي عرَّضها للسجن ثم المنفى. كما أن بعضًا من اليهود المتوسطيين بقوا في مواطنهم ومنهم اليهودية التركية ليزي بيهمواراس. ومن الأشياء الطريفة التي ذكرتها اليهودية الجزائرية جويل بهلول عن صورة فوتوغرافية التقطت لها ولزميلاتها في مدرسة "ديار السعادة" في العاصمة الجزائر وتعود الصورة الفوتوغرافية إلى عام 1958. تقول جويل بهلول: "كنا أربعين تلميذة فرنسية وعربية، بساحة المدرسة، لضرورات الصورة يتم تنظيمنا في ثلاثة صفوف أمام الكوات المزجّجة لقاعة الدرس، أغلبية البنات عربيات في الصف الأول لاتبرز إلا الفرنسيات. أقعد في الوسط بجانب ابنة المعلمة، منافستي على الرتبة الأولى في القسم. بالصفين الثاني والثالث تستقمن واقفات أغلبية من الفتيات العربيات، من هنا وهناك، بعض الفتيات الفرنسيات. هل كانت هذه الطريقة في تنظيم التلاميذ تعني تصنيفا إثنيًا لمجتمع الجزائر العاصمة؟ بعد أكثر من نصف قرن؟ هكذا تؤول ذاكرتي الصورة".

جاء في تصدير هذا الكتاب: "أربعة وثلاثون مثقفًا من أهل الكتاب"، الكتاب المقدس والدنيوي على حد سواء، يحكون طفولتهم اليهودية بالمتوسط المسلم. بالمغرب، بالجزائر، بتونس ، بمصر، بلبنان، بتركيا، كانت ساكنة يهودية حاضرة عدة قرون قبل الإسلام.لاحقًا، وجد اليهود الذين طردتهم محاكم التفتيش الإسبانية، منذ سنة 1492 ونزاعات أخرى عبر التاريخ، ملاجئ لهم في بلدان حوض المتوسط، عرف اليهود، الذين شكَّلوا دائمًا أقلية، أوضاعًا قانونية متعددة حسب العهود التاريخية، الأنظمة السياسية والأوطان". لقد حدث أن كانوا ذميين"محميين"، لكن في بعض الأحيان ضحايا تمييز، وفي الجزائر الفرنسية المستعمرة، وجدوا أنفسهم مواطنين فرنسيين بموجب مرسوم كريميوه سنة 1970.ثم أتت مرحلة نهاية الإمبراطورية العثمانية، الحربين العالميتين ، قوانين فيشي المعادية لليهودية، تأسيس إسرائيل في سنة 1984، أزمة قناة السويس والنزاعات الإسرائيلية العربية، الإيديولوجيات القومية العربية، الاستقلالات المتتالية للبلدان التي كانت تحت الحماية ثم الجزائر الفرنسية المستعمرة. أمَّا الجماعات اليهودية، التي كانت في أغلب الأحيان مهددة، فقد أخذت طريق المنفى.هكذا كانت قبلة لهذه الجماعات دول مثل فرنسا، الولايات المتحدة الأمريكية، كندا، البرازيل، الأرجنتين ، إيطاليا إلخ.

على نبرة ساخرة، رقرقة، مأساوية، حنينية، متبصرة، تقول حكايا الطفولة هذه نهاية عالم، تاريخ، مجتمع كوسموبوليتي، تقول حدس منفى نهائي، بقدر ما سيكون، بالنسبة إلى مؤلفيها_ هذه الحكايا_ فلاسفة، أهل سينما ومسرح ، محللين نفسيين، مؤرخين ومترجمين ، صحافيين، جامعيين.. صعبًا في الغالب، بقدر ما سيكون خصبًا وخلاَّقًا".

الطرافة في هذا الكتاب اشتماله على سير ذاتية شفاهية تؤرخ لحقبة تاريخية مهمة جدًا في تاريخ الشرق الأوسط بالذات، وتحفر هذه الشهادات الذاتية عميقًا في تاريخ أصفه بالتاريخ المتحرك أبدا.