سعوديون محافظون.(أرشيف)
سعوديون محافظون.(أرشيف)
الأحد 8 أكتوبر 2017 / 19:51

السعودية تطوي مرحلة الصحوة

كانت الدولة السعودية تتعامل مع الصحوة تعاملاً وسطياً يحاول احتواء الأصوات المعتدلة ويوقف الأصوات المتطرفة عند حدها، لكن هذا لم يمنع الصحوة من التمدد والسعي الحثيث للهيمنة والوصاية على المجتمع

دعونا نحاول أن نصف الأحداث وصفاً موضوعياً. ما يحدث اليوم في السعودية هو طي لمرحلة تاريخية كما تطوى قطعة من السجاد وتنقل خارج غرفة الجلوس. تلك المرحلة التاريخية هي مرحلة "الصحوة". الصحوة الإسلامية هي حركة اجتماعية سياسية دينية اندلعت في العالم العربي بعيد فضيحة 1967 وتدمير الطائرات الحربية المصرية في زمن عبد الناصر، وهي قابعة على المدرج.

انتاب الروح العربية شعور جمعي بأن تلك الكارثة التي لا زالت قابعة في وجدان كل عربي، إنما وقعت بسبب تبني عبدالناصر للفكر الاشتراكي وتفرعن المد اليساري في الخمسينات والستينات وترسخ الفكر الشيوعي. هكذا حسمت الروح العربية القضية بكل بساطة: أن الهزيمة إنما وقعت بسبب البُعد عن الدين.

هنا عاد العرب إلى البحث عن الحل الإسلامي، من خلال العمل على تطوير كتابات جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وحسن البنا وأبي الأعلى المودودي، وبرز اسم الرجل الذي أعدمه عبدالناصر في 29 أغسطس (آب) 1966 سيد قطب وأضيف نتاجه لنتاج السابقة أسماؤهم ليخرج مزيج من هذه الأفكار، هو ما شكّل فكر الصحوة.
إنه فكر يختلف عما عهدناه في بلادنا من الخط السلفي الذي ينتمي للدعوة الإصلاحية للشيخ محمد بن عبد الوهاب، في كون الصحوة تحمل فكراً بتفاصيل أكثر وأشد تعقيداً بخصوص حياة المسلم والنظام السياسي والحكومة الإسلامية والحياة الاجتماعية التي يجب أن تكون، فيما يتميز عنه الخط السلفي بأنه يُعنى بإصلاح العقيدة وترك تفاصيل الحياة للدولة والحاكم الزمني ولا ينشغل بصراعات سياسية بعد أن أعطى البيعة.

في منتصف السبعينات كنت طفلاً صغيراً، ولم يكن معهوداً في مدينة الرياض أن ترى رجلاً لا يأخذ من لحيته شيئاً بنحو الصورة التي نراها اليوم، بل إن إمام المسجد ومؤذنه كانا يهذبان لحيتيهما ويتزينان. لفتت نظري ذات مرة خيمة قد نُصبت إلى جوار المسجد في حي سكني حديث، وكان فضول الطفل يدفعني لرؤية سكان تلك الخيمة الغريبة. سكانها كانوا أربعة رجال من ذوي اللحى الطويلة ويرتدون ثياباً قصيرة جداً، وقد كانوا لطفاء للغاية ولا يُسمع لهم صوت. إلا أن مشهدهم في الحي الذي عشنا فيه، كان في منتهى الغرابة لأنهم لم يكونوا يشهبون أحداً. لم يكونوا يُلقون كلمات الوعظ ولا يشاركون في أي شيء، ويبدو أنهم قد انقطعوا في تلك الخيمة للعبادة. كان مظهرهم غريباً ولطفهم ظاهراً حتى إنني تخيلت أنهم من الصحابة الذين نسمع عنهم في المدرسة، وقد بُعثوا من جديد.

بعد فترة من الزمن غادر هؤلاء العُباد حيّنا واختفت خيمتهم، وبقي مظهرهم عالقاً في ذاكرتي، برغم الضعف الشديد الذي يهيمن على ذاكرتي، لأن هذه كانت  المرة الأولى التي أرى فيها أناساً على هذه الهيئة التي لم تكن معهودة لي من قبل، وقد أصبت بالدهشة التي تبقى علماً في الذاكرة.

ربما كانت البداية لأناس صادقين شعروا بمرارة الهزيمة في 1967 فسعوا لاستعادة الخلافة الإسلامية التي تحدثت عنها كتب التاريخ. ثم شجع الرئيس المصري السادات خط الإسلام السياسي وأخرجهم من سجون عبد الناصر وحاول أن يُصادقهم، لكنهم في النهاية قتلوه، رغم أنه هو الرجل الذي استعاد صحراء سينا الشاسعة، وهو الذي حطم المصريون في زمنه خط بارليف وحققوا انتصار 1973. لقد اتسخت أيدي الوعاظ الجدد بالسياسة وأصبحوا الآن يعرفون معنى الاغتيالات السياسية، وباتوا لا يختلفون عن أية حركة سياسية كالحشاشين ونجدة الحنفي وانتهاء بحسن البنا ورفاقه.

كل ما يحدث في مصر ينعكس علينا، ولذلك يجب ألا نغفل عن مصر. ولا نغفل أيضاً الأثر العميق لثورة الخميني في إيران 1979 والتي تلتها حادثة الحرم في السعودية. هذه المؤثرات مجتمعة هي ما أدى للصحوة التي أعلنت عن قوتها في منتصف الثمانينات، وأصبحت مهيمنة على المجتمع بعد حرب تحرير الكويت، بعدما تغلغلت في كل جهاز حكومي.

كانت الدولة السعودية تتعامل مع الصحوة تعاملاً وسطياً يحاول احتواء الأصوات المعتدلة ويوقف الأصوات المتطرفة عند حدها، لكن هذا لم يمنع الصحوة من التمدد والسعي الحثيث للهيمنة والوصاية على المجتمع. لم تعد القضية قضية دين، بل أصبحنا أمام مشروع سياسي يسعى بشراسة لابتلاع كل شيء، وأرضاً شاسعة اسمها الصحوة أدت لسيلان لعاب تجار الدين من ماركة عمرو خالد وغيره كثير، لكي ينطلقوا لتكوين ثرواتهم من خلال جرح الكرامة الذي وقع في 1967 .

ما يحدث في السعودية اليوم، هو أن الدولة قد قررت أن تطوي هذه المرحلة بالكامل بخيرها وشرها لتنطلق بشجاعة نحو المستقبل. هذا لا يعني أن الدولة ستحارب الدين، فالدين والإيمان شيء إيجابي وأثره عميق في تكوين المجتمعات السوية، بل إن التدين الحقيقي الخالي من الزيف وملاحقة المصالح هو ما سيبرز الآن، أما تلك المرحلة قد انتهت اليوم فعلاً، ليس في السعودية فقط، بل في كل العالم.