الفيلسوف العربي أبو يوسف الكندي.(أرشيف)
الفيلسوف العربي أبو يوسف الكندي.(أرشيف)
الأربعاء 11 أكتوبر 2017 / 19:39

رسالة في دفع الأحزان

هاجم الكندي تجَّار الدين في رسائله، ووصفهم بأن الدين منهم براء، وأنهم لا يُظهرون غيرةً على الدين إلا للدفاع عن مناصبهم الزائفة، كما لاحظ الكندي، أن لا دين لمن يقاوم العلم

أول ثمرة من ثمار انتقال الفلسفة، وعلوم الأوائل اليونانية إلى العالَم العربي، هي: أبو يوسف يعقوب ابن اسحق الكندي، الملقب بفيلسوف العرب، وهو لقب قديم، يذكره ابن النديم في "الفهرست"، وصاعد الأندلسي في "طبقات الأمم"، والقفطي في "أخبار العلماء بأخبار الحكماء"، وابن أبي أصيبعة في "عيون الأنباء في طبقات الأطباء"، والبيهقي في "تتمة صوان الحكمة". ويلذ لأصحاب السير أن يذكروا نسبه الطويل حتى يصل إلى يعرب بن قحطان. كان والد الكندي أميراً على الكوفة، ولاّه عليها، الخليفة المهدي. لا نعرف تاريخ ميلاده، ولا تاريخ وفاته على وجه التحديد، لكن ماسينيون يحدد وفاته بسنة (246 هجرياً، 860 ميلادياً)، بينما الشيخ مصطفى عبد الرازق يحدد وفاته بسنة 252 هجرياً، 864 ميلادياً. حظي الكندي بالشهرة في عهد الخليفة المأمون (198-218 هجرياً،813-833 ميلادياً)، حتى إن المعتصم اتخذه معلماً لابنه. يفترض عبد الرحمن بدوي في "موسوعة الفلسفة"، أن الكندي وُلد حوالي سنة (180 هجرياً، 796 ميلادياً)، في البصرة، ثم ذهب بعد ذلك إلى بغداد، لإتمام دراسته الفلسفية، واختلط هناك بأوساط المترجمين من اليونانية والسريانية إلى العربية.
  
وضع الكندي في رسالته "حدود الأشياء ورسومها"، تعريفات للفلسفة، منها تعريف بحسب الاشتقاق، وهو: الفلسفة هي حب الحكمة، لأن فيلسوف مُرتَّب من "فيلا"، وهي "مُحب"، ومن "سوفيا"، وهي الحكمة. إن الفلسفة هي التشبه بأفعال كبرى، وبقدر طاقة الإنسان على تلك الأفعال، يكون كامل الفضيلة. وتعريف بحسب غايتها: الفلسفة هي العناية بالموت، والموت موتان، الأول هو ترك النفس استعمال البدن، والثاني هو إماتة الشهوات، لأن إماتة الشهوات، طريق إلى الفضيلة، وبالفضيلة تتفرغ النفس لاستعمال العقل. كرّس الكندي رسالةً، صنّف فيها مؤلفات أرسطو، وذكر أفلاطون في رسالته المختصرة عن النفس، وأطلق على فلسفة ما بعد الطبيعة، الفلسفة الأولى، وهي أنبل أجزاء الفلسفة. ذلك أنها علم بالحق الأول، الذي هو علة كل حق. ولهذا فإن الفيلسوف الكامل، هو مَنْ يتعمق في هذا العلم النبيل الشريف، الذي هو علم بالعلّة، والعلم بالعّلة، أشرف من العلم بالمعلول، لأننا لا نكتسب علماً كاملاً بالشيء إلا إذا عرفنا علّته معرفة كاملة.

وهاجم الكندي تجَّار الدين في رسائله، ووصفهم بأن الدين منهم براء، وأنهم لا يُظهرون غيرةً على الدين إلا للدفاع عن مناصبهم الزائفة، كما لاحظ الكندي، أن لا دين لمن يقاوم العلم، ذلك أن العلم بحقائق الأشياء، يشمل العلم الإلهي، وعلم التوحيد، وعلم الفضائل، وبالجملة، علم كل ما هو نافع، والعلم بهذه الأمور، يوصي به الرسل الصادقون الذين بعث الله بهم. وبحث الكندي في طبيعة الأزلي، وقال في الأزلي: هو الذي لم يكن ليس، وليس يحتاج في قوامه إلى غيره، والذي لا يحتاج في قوامه إلى غيره، فلا علّة له، وما لا علّة له، فهو دائم أبداً. والزمان عند الكندي واحد، لا يختلف باختلاف الأشياء. الزمان ليس الحركة، بل هو عدد يعدُّ الحركة، وهذا نص تعريف أرسطو للزمان، إذ قال: الزمان هو عدد الحركة بحسب المتقدم والمتأخر. وللكندي رسالة، هي مزيج بين الأدب والفلسفة، اسمها "في الحيلة لدفع الأحزان". وفيها يطلب صديق للكندي، أن يضع كتاباً في دفع الأحزان. ويبدأ الكندي، استجابةً للصديق، هكذا. كل ألم لا يُعرف سببه، لا يُرجى شفاؤه، ولهذا ينبغي بيان سبب الحزن، ليمكن وصف الدواء. يُعرِّف الكندي الحزن بأنه ألم نفساني، ناتج عن فقد أشياء محبوبة، أو عن عدم تحقق رغبات مقصودة، وعلى هذا، فإن سبب الحزن هو إما فقد محبوب، أو عدم تحقق مطلوب. ودواء الكندي يبدأ بتقسيم الحزن إلى نوعين، حزن ناشئ يتوقف على إرادتنا، وحزن ناشئ يتوقف على إرادة الغير. الحزن الناشئ عن إرادتنا، نستطيع الامتناع عنه، والزهد فيه. والحزن الناشئ عن إرادة الغير، نتوقاه إن أمكن، وإن وقع، فلا نطيل مدته، فإن طالتْ، نغمر الحزن الحاضر، بحزن ماض، عن طريق الذاكرة، فإذا رأينا أن الحزن الماضي كان غير قابل للتجاوز، فهذا يعني أن حزن الحاضر، قابل للتجاوز.

وكما ربط الكندي بين الحزن والذاكرة، يربط أيضاً بين الحزن والملكية، فعلينا ألا نملك شيئاً حتى لا نفقده، فيكون فقدانه سبباً للحزن، ولأن الحرص لا تدوم معه ملكية، فيجب علينا أن لا نملك شيئاً. ويدلل الكندي لصديقه، بحكاية نيرون، امبراطور روما، الذي أُهْدِي كرة عجيبة من البلور، فسرَّ بها نيرون كثيراً، ومدحها الحاضرون من خاصته، وكان بينهم فيلسوف، فسأله نيرون عن رأيه في كرة البلور، فأجاب الفيلسوف بأنها تكشف عن مصيبة ستحدث للامبراطور، فقال نيرون: كيف؟ فقال الفيلسوف: لأنك إن فقدتها، فلا أمل في أن تظفر بمثلها، وعندئذ ينالك الشقاء. ذهب نيرون في نزهة إلى جزيرة، ذات يوم، وأمر بوضع كرة البلور بين المتاع، فغرقتْ سفينة المتاع، ومعها كرة البلور، وكان ذلك سبباً لحزن نيرون.