غلاف كتاب "الشاي".(أرشيف)
غلاف كتاب "الشاي".(أرشيف)
الخميس 12 أكتوبر 2017 / 19:52

...الشاي بوصفه تمثيلاً ثقافيًا

ارتباط طقوس الشاي اليابانية بفلسفتي التاو والزن كان يعني النزعة الفردية في الفلسفة الصينية الجنوبية بالتعارض مع الحس الجماعي في الفلسفة الصينية الشمالية الذي عبَّر عن نفسه في الكونفوشيوسية

"ينطوي الشاي على سحرٍ خفيٍّ يجعله لايُقاوم ويمنحه القدرة على إسباغ الإحساس بالمثالية. فالشاي ينأى بنفسه عن غطرسة النبيذ، وعن غرور القهوة، وعن البراءة المتكلّفة في نبتة الكاكاو".هكذا كتب أوكاكورا كاكوزو في كتابه"الشاي"، وهو الكتاب الذي ترجمه الزميل الأستاذ سامر أبو هوّاش إلى اللغة العربية في ترجمة رصينة عن إصدارات مشروع "كلمة" الإماراتي للترجمة. وقد بيّن المترجم في تصديره لترجمته تحريض الدكتور علي بن تميم لإنجاز ترجمة هذا الكتاب الجاذب جدًا والمحرِّض جدًا على فهم الآخر والتواصل معه.

ينتمي الياباني أوكاكورا كاكوزو(1862_1913) إلى عائلة من المحاربين الساموراي، وقد انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية وهناك انضم إلى الأوساط الفنية وأصبح قيّمًا مساعدًا للقسم الصيني والياباني في متحف بوسطن للفنون الجميلة. وقد ألَّف كتاب"الشاي" باللغة الإنجليزية عام 1905، ورغم مضي قرن كامل على تأليفه إلا أنَّ هذا الكتاب كما يقول مترجمه إلى العربية سامر أبو هوَّاش يُعد أعظم كتاب أُلِفَ عن الشاي في تاريخ العالم والبشرية.

إنَّ كاكوزو الذي كان قريب العهد زمنيًا من نهضة الإمبراطور المايجي في اتصاله بالحضارة الغربية كان حريصًا في هذا الكتاب على أن يجعله بمثابة منصة فكرية وثقافية للدفاع عن الحضارة والثقافة اليابانية أمام المتلقي الغربي، كما يذكر المترجم في تصديره، وهكذا يبدو خطابه دفاعيًا في المقام الأول. يقول كاكوزو" إنَّ أولئك الذين لايحسون بضآلة الأشياء العظيمة في ذواتهم، ميَّالون إلى إهمال العظمة الكائنة في الأشياء الصغيرة لدى الآخرين. إنَّ الغربي العادي، الغارق في الاكتفاء الذاتي، لايسعه أن يرى في حفل الشاي إلا دليلاً آخر على الغرائب الكثيرة التي تشكّل سحر الشرق وطفوليته. وكان يعتبر اليابان بلدًا بربرياً، في الوقت الذي انغمست فيه في فنون السلام الرقيقة؛ وبدأ يعتبرها متحضرة حين بدأت ترتكب المجازر بالجملة في ميادين القتال في إقليم منشوريا.

 وقد تعرَّض "قانون الساموراي"، فن الموت ذاك الذي يدفع جنودنا إلى التضحية بأرواحهم بكل سرور إلى النقد الكثير أخيرًا. لكن بالكاد يبدي هذا الغرب أي اهتمام ب"الشاييه". ولذلك فإنَّ كتاب الشاي" كما ألفه كاكوزو ليس مجرد طقوس له وبيان طرائق إعداده إنه كتاب يغوص عميقًا في تمثيلات الشاي الروحية العميقة وصدور معلمي الشاي عن فلسفات مثل التاو والزن.

في الفصل الأول من الكتاب الذي أسماه كاكوزو"كوب الإنسانية" ينبري بخطاب سجالي طويل ضد خطاب الغرب الاستعلائي المشوّه لليابان آنذاك، وهو الخطاب الذي اختزل اليابان فقط في الثقافة العسكرية "ثقافة المحاربين الساموراي"، ولم يتناول من تلك الثقافة سوى ثقافة العنف. في الحين الذي غيّب فيه هذا الخطاب الغربي الاستعلائي التمثيلات الثقافية الحضارية المرهفة الحس للياباني ومنها تقاليد "الشايية" في جمالياتها؛ أي كل ما يتصل بها من طقوس حضارية ثقافية.

إنَّ ارتباط طقوس الشاي اليابانية بفلسفتي التاو والزن كان يعني النزعة الفردية في الفلسفة الصينية الجنوبية بالتعارض مع الحس الجماعي في الفلسفة الصينية الشمالية الذي عبَّر عن نفسه في الكونفوشيوسية. يقول كاكوزو:" زعم التاويون أنه يمكن تحويل ملهاة الحياة إلى شيء شيق أكثر لو حافظ الجميع على الانسجام بين مختلف الوحدات فالاحتفاظ بتناسب الأشياء والإفساح في المجال للآخرين من دون أن يفقد المرء موقعه الخاص هو سر النجاح في الدراما الدنيوية. علينا الإلمام بالمسرحية كلها، لكي نلعب دورنا بطريقة صحيحة؛ مفهوم الكلية لا ينبغي أن يضيع البتة في مفهوم الفردية". وهكذا فإنَّ هذا الكتاب الذي يعد الكتاب الأهم عن الشاي في التاريخ الإنساني يعد بالفعل كتابًا ثقافيًا مهمًا في قضايا التواصل الثقافي والحضاري مع الآخر ويعد كذلك كتابًا جماليًا روحانيًا فلسفيًا عميقًا. إنه كتاب استطاع اختزال الثقافة اليابانية كلها في طقوس الشاي، وهو كتاب استطاع كذلك أن يغير من طبيعة بعض الصور النمطية الشائعة عن الحضارة اليابانية وخاصة في أعقاب الاحتلال الياباني العسكري العنيف لمنشوريا الصينية والمجازر الفظيعة التي ارتكبت آنذاك. وهو كتاب استطاع أن يجعل المتلقي يغوص عميقًا في روح الحضارة والثقافة اليابانية التي عزلت نفسها ثقافيًا وحضاريًا وجغرافيًا عن الحضارات الأخرى لآلاف السنين ، واستمرت لغتها شفاهية لم تنتظم في أبجدية وعندما احتاجت إلى تلك الأبجدية لجأت إلى استعارتها من الأبجدية الصينية. وأنا أقرأ هذا الكتاب تذكرت السيرة الذاتية"بجعات برية، دراما الصين في حياة نساء ثلاث" للكاتبة البريطانية من أصل صيني يونغ تشانغ، وهي التي أرادت من خلال توثيق سيري اختزال الصين الحديثة في ثلاثة أجيال. إذن نحن أمام أسلوبين أسلوب اختزل حضارة كاملة في كوب شاي يعني برمزيته العميقة الكثير وأسلوب آخر في الكتابة اختزل حياة شعب كامل في حياة نساء صينيات ثلاث يمثلن ثلاثة أجيال متباينة من الصين الحديثة، وهذه هي متعة القراءة مع اختلاف الأساليب وتنوعها!