جلسة لمجلس الوزراء الإماراتي.(أرشيف)
جلسة لمجلس الوزراء الإماراتي.(أرشيف)
الأربعاء 18 أكتوبر 2017 / 20:07

لا تجديد للخطاب الديني دون ضبط الفتاوى

الفتاوى المضللة عبارة عن أقنعة تتستر خلفها الدعوات من أجل الفوضى، وتزيد تعتيم الرؤية بدلًا من إيضاحها، لتتمخض عن بناء فكري أجوف فاقد للمصداقية والموضوعية

ترتبط الفتوى بالإنسان المسلم فى مختلف مناشط الحياة، لكن الفتاوى المتطرّفة التي تطلق على عواهنها، كان لها أدوار تخريبية حصيلتها التدميرية كانت مروعة للغاية، وخلقت تنظيمات وميليشيات «جهادية» عُنفية- مبررة بالفتاوى - نتيجة دعايات تعبوية من شيوخ التطرف وأئمة الإرهاب، الذين فصّلوا عباءتها الوعظية تفصيلاً، على عدم إحترام الإنسان والأديان والعقائد، وهنا لنا أن نتساءل: كيف يتحول إنسان عادي وربما غير ملتزم بأبسط تعاليم الدين إلى متطرف محترف ومستعد لارتكاب المجازر الجماعية باسم الدين؟

الفتاوى المضللة عبارة عن أقنعة تتستر خلفها الدعوات من أجل الفوضى، وتزيد تعتيم الرؤية بدلًا من إيضاحها، لتتمخض عن بناء فكري أجوف فاقد للمصداقية والموضوعية، يراد منه تقليص مساحة السماحة والتعايش، والانحراف عن مساعي السلام والخير، وبالمقابل فإنّ الفتاوى ذات المستند الشرعي السليم، هي تأسيس لفكر معتدل وسطي، لذلك فإنّ هناك حاجة إلى حماية دائرة الفتوى من استغلال رعاة الإرهاب.

لا جدوى من تجديد الخطاب الديني دون ضبط فوضى الفتاوى الجائرة، بغية تصويب الواقع المزري. فتجديد الخطاب يأتي تلقائيًّا بل انسيابيًّا ما دمنا نصادر الروافد الأولى للفتاوى الزائفة والمكفّرة، أو تلك التي توسع من دائرة المحرم، ومقارعتها بالحجة الدامغة، وبكتاب منير، لإيجاد إجابات تشفي غليل المسلم وتزيل حيرته. عندئذٍ نستطيع تجديد الخطاب الديني وتنقية ما في التراث، وتنظيف ما علق من به من رواسب مسمومة، لأنّنا نغلق كلّ المرجعيات العفنة التي أفرزت منه تلك الفتاوى المسيئة، وهي بالضرورة تنال من عقيدتنا الراسخة بسماحتها، وحفظها من عبث أهل الأهواء والمصالح.

لذلك كان لا بدّ من مرجعيّة وسطيّة تقوم على حذف النصوص المغلوطة، وتتجنّب التركيز على التفسيرات المتشدّدة التي تنزع إلى جهة التعصب والتطرف، أو تلك الداعية للقتل والكراهية، التي تأخذ من مصادر كتب التراث بعيدًا عن تسلسلها الواقعي وتنزع من سياقاتها التاريخيّة، فضلًا عن الإشكالية التي يتم فيها إبراز النماذج المنحرفة في التراث وإظهارها للمسلم العادي على أنها أنموذج للتنوير في التاريخ الاسلامي.

السبب الرئيس لتقليص وانكماش دولة داعش ليس المعارك العسكرية والأمنية، بل هو تراجع نفوذ مرجعياتها الدينيّة، وإلقاء القبض على مفتي تنظيم داعش والقاعدة في العراق، كون المجرم كان صديقًا حميمًا للمدعو أبو بكر البغدادي (زعيم دعش) ولهذا تم تجفيف منابع الإرهاب، فالجماعات المتطرفة تلجأ إلى حيلة الفتاوى المضللة لإضفاء القدسية على ضلالها، لتنفيذ أجندتهاالسياسية، بغية إعادة تشكيل الوجدان الإسلامي على أهوائها ومقاصدها.

فالشاهد ما أعلنته وزارة الداخلية العراقية عن تمكّن أحد تشكيلاتها الأمنية من إلقاء القبض على المجرم حسام ناجي شنينو المسؤول الأول عن الإفتاء، وتقلد منصب "الشرعي العام" للتنظيم، الذي كان مسؤولًا عن إعطاء الأذونات الشرعية الداعشية بهدم بيوت الله من مساجد وحسينيات وجوامع وكنائس وأماكن عبادة مقدسة لدى الأقليات في الموصل وصلاح الدين وديالى ومناطق كركوك وبقية المحافظات. كما كانت فتاويه السوداء بمنزلة قنبلة موقوتة بقتل الأبرياء وسرقة ممتلكاتهم وسبي نسائهم وبيعهن...إلخ، والقبض على هؤلاء المضللين يشكّل ضربة قاصمة للتنظيم وكل من يدور في فلكه.

الخيريّة والتسامح والرحمة صفات ملازمة للأمة المسلمة، ومرتبطة بمصدر القاعده التشريعية، لتحقق مبدأ التيسير في الدين الإسلامي، والهدف إصلاح حياة البشر، ورفع الحرج-الضيق- ولخدمة الدين والوطن والإنسانية، فالإفراط والتفريط مغاير لقصد الشرع، لأجل بناء منظومات عقلية وروحية متميزة، تنتج لنا أصواتًا تمضي في طريق النهج القرآني السديد.

لقد استطاعت دولة الإمارات العربية المتحدة أن تقدم نموذجاً للوسطية والاعتدال والتعايش والانفتاح على الحضارات المختلفة، وترجم ذلك من خلال رفد شريان الحياة لكل المؤسسات الدينية الوسطية في العالم العربي والإسلامي. فالفكر الوسطي تلتقي فيه كل الأفكار، فهو نقطة جذب للأطراف المختلفة التي تتمثل في إبراز ودعم رجال الدين المتوغلين في علوم الدين، الضالعين في إصلاح الخطاب الإسلامي، وحجب كل عالم يحاول خطف الدين الإسلامي، ونزعه من سياقه وصورته السمحة.

من التدابير الوقائية لمقارعة الإرهاب تفعيل أدوار المؤسسات الإفتائية فى التصدي للفتاوى الظلامية، لصياغة رؤية تنشر الرحمة والرفق واليسر، وتتحدى تيارات التحريف والتضليل المتعمد لصحيح الدين، لتصبح الإمارات حائط الصد لوقف كل الأفكار الهدامة والمتطرفة.

فكان القرار الصائب الذي يستحق الاحتفاء به، لكنه لم يلقَ تلك الحفاوة الأعلامية المطلوبة، وذلك عندما اتخذ مجلس الوزراء الإماراتي قرارًا بإنشاء "مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي" وهو منصة شرعية معتدلة، لصناعة الفقيه أو المفتي الرفيق الرحيم الميسر، الذي يحجّم دائرة المحرم، ويرأب الصدع، ويصلح ذات البين، ويحافظ علَى قيمنا العليا ومقدساتنا الوطنيّة، لأننا نحيا واقعًا مهترئًا نريد أن نقيم على أنقاضه بناءً جديدًا راشدًا مستنيراً.