أحد مداخل غزة. (أرشيف)
أحد مداخل غزة. (أرشيف)
الخميس 19 أكتوبر 2017 / 20:07

خيال علمي أو ما يشبه ذلك

"المعبر" يكاد يكون امتيازاً فلسطينياً، ينتقل "عبره" الفلسطينيون من العتمة إلى الضوء، من الوقوف أمام جنود الاحتلال المراهقين وأيديهم، الخفيفة على السلاح، ومجنداتهم الكئيبات دون لغة سوى "الكراهية" العميقة، إلى بهجة اللغة

في منتصف الأسبوع وصل "نظمي مهنا" إلى غزة عبر معبر بيت حانون، "مهنا" هو المسؤول الفلسطيني عن هيئة المعابر والتي تشمل تلك التي تصل الضفة الغربية بالأردن، ومصر، إضافة إلى التي تربط غزة بإسرائيل، معابر للتجارة ومعابر للأفراد.

لا يملك الفلسطينيون، عشية الذكرى الخامسة والعشرين لاتفاقيات أوسلو، ونصف قرن على احتلال الضفة وغزة وسبعة عقود على نكبة ال 48، وفي ذكرى مئويتي "وعد بلفور" واتفاقية "سايكس بيكو"، لا يملكون مطاراً أو ميناء أو سكة حديداً، لدينا "معابر"، ممرات تؤدي إلى "العالم الخارجي"، حيث يعيش بقية سكان الكوكب، يسيطر عليها الاحتلال.

"المعبر" يكاد يكون امتيازاً فلسطينياً، ينتقل "عبره" الفلسطينيون من العتمة إلى الضوء، من الوقوف أمام جنود الاحتلال المراهقين وأيديهم، الخفيفة على السلاح، ومجنداتهم الكئيبات دون لغة سوى "الكراهية" العميقة، إلى بهجة اللغة وطاقتها التي تحرك القلب والذراعين، أو، كما في حالة معبر رفح، من حصار غرائبي مركب إلى فضاء العالم.

شيء يشبه الخيال العلمي.

لذلك تبدو مهمة "نظمي مهنا" خاصة بنا تماماً وممتلئة بالتعقيدات والتفاصيل والترقب.

ويبدو أن متابعة حركته وتصريحاته تتمتع بأهمية خاصة لدى الناس، أكثر بما لا يقاس، من متابعة حركة وفدي "فتح" و"حماس" وتصريحات الناطقين باسميهما، أو الناطقين بدون تكليف، إنهاء مأساة "معبر رفح" وضمان حرية حركة الناس، والخروج من دوامة "الحالات الطارئة"، تلك المتعلقة بالمرض والحج والوفود الرسمية، نحو الناس المدفوعين برغباتهم البسيطة بالسفر، ستكسر عشر سنوات مريرة من الحصار.

شيء يشبه المتنبئ بالطقس قبل وصول الأقمار الصناعية إلى مدار الأرض.

وبناء على نبوءته يمكن اختيار الملابس والحقائب والطريق والوقت.

نبوءات، هي مزيج من النصائح والإرشادات والمعلومات، تقرأ مزاج الاحتلال وتتابع حركة المستعمرين على الطرقات والحواجز، وتقلبات السياسة، وحركة الاحتجاج والمقاومة، والأعياد الدينية وموسم الحج وقوافل المعتمرين، وساعات العمل وحركة المغادرين والقادمين، تخفيف محطات التفتيش العجائبية التي يؤلفها الاحتلال، تخفيف ضريبة الخروج، جودة الحافلات الناقلة.

وصول "نظمي مهنا" إلى معبر رفح تحت مظلة "المصالحة" أكثر أهمية، بما لا يقاس، من وصول المتفاوضين إلى القاهرة، والصورة التي ظهر فيها واقفاً أمام بوابة المعبر وهو يتحدث للصحفيين، حظيت باهتمام أكثر من صورة "المتعانقين الضاحكين" في القاهرة. وصول الرجل هو الإشارة الأهم، بالنسبة لأكثرية المتابعين في غزة لشؤون "المصالحة"، وعليها، الإشارة، يمكن قياس جدية ما يحدث.

هذا ينطبق، أيضاً، على الأخبار المتداولة حول تشغيل محطات توليد الكهرباء، وتطوير محطة تحلية المياه، وتحسين خدمات القطاعين الصحي والتعليمي، والشوط الذي قطعته جهود المصالحة المجتمعية، التي تشكل البنية التحتية لكل ما سبق.

هكذا يفكر الناس، معظمهم في الأقل، بـ "المصالحة"، وهذا بالضبط ما ينبغي أن يفكر به "المتصالحون".

أن يتوقف "النائب عن الشعب" بالتبرع بنصف مليون شهيد في الحرب القادمة، أن يتوقف عن تهديد الاحتلال برفع عدد الشهداء إلى أرقام فلكية، أن لا يوضع "سلاح المقاومة" كوسيلة لعرقلة الحصان والعربة، أن لا يتذمر أحد من السؤال المشروع حول بطء إجراءات "رفع العقوبات" التي فرضتها السلطة مؤخراً على غزة، وربط هذا الرفع بـ "تمكين" حكومة الوفاق، وهو، "التمكين"، مصطلح فضفاض ومثير لشكوك لا معنى لإثارتها.

هذا هو جوهر المصالحة الآن.

يختار الناس، بعد تجربة طويلة، يستحيل مديحها، أين يضعون ثقتهم، يختارون الصوت والشخص، واللغة البسيطة الخشنة، تلك التي لم تصقلها السياسة، اللغة التي تذهب مباشرة الى مقاصدها وتتوازى مع العمل على الأرض، لهذا، ربما، يثقون بثلاث جمل يقولها "يحيى السنوار" قائد حماس في القطاع، ويعرضون عن "أدبيات" و"بلاغة" "خطباء السنوات العشر" والناطقين الذين يثيرون الضجر في الجانبين.

ما يحدث يتجاوز فكرة "المصالحة" ويذهب نحو ظهور جيل جديد من القادة السياسيين، أو المطالبة الشعبية المتنامية بالتغيير.

سيصرخ المتضررون، وهم كثر. وسيجد نتانياهو وفريقه من المستعمرين "أسبابهم" لمحاولة تفكيك "المصالحة" واستعادة انقسام الفلسطينيين الذي شكل غطاء نموذجياً لسياسات الاحتلال. سيصرح "جيسون غرينبلات"، ممثل "ترامب" ووسيطه، حول شروط الرباعية...، كل هذا ليس مهماً الآن، حياة الناس هي المهمة.