الممثلة اليابانية رينكو كيكوتشي في فيلم بابل. (أرشيف)
الممثلة اليابانية رينكو كيكوتشي في فيلم بابل. (أرشيف)
الأربعاء 25 أكتوبر 2017 / 20:41

غيمة بابل

تؤكد أمريكا أن تويتر والفيس بوك، خير، وليسا لعنة. لكن تويتر جاء بدونالد ترامب رئيساً على عكس ما كانت تتمناه أمريكا

هناك مراقبون عميقو النظر، رأوا أن التحولات المعولمة التي دشنها صعود الشبكة العنكبوتية، وتقدم تكنولوجيا الكومبيوتر، أو العقل الإلكتروني الحديث، هي بداية حقبة لا نعرف نهايتها، بداية حقبة جديدة قائمة على تمكين جمهور مجهول، زومبي توتاليتاري، مطلق السلطة، وأيضاً تمكين فرد غير وجودي، فرد ذئب، يقتل بدوافع عقائدية، أو جنائية.

وهذا يدفع عجلة الشفافية الفوضوية إلى الأمام، سواء بنشر أسرار السلطات، أو بهدم الحواجز الآمنة بين الثقافات، لنحصل على برج بابل كوني، غيمة واحدة بابلية، سوق بابل الحرة، ملايين الألسنة البابلية، تنطق عبر ملايين النقرات، على ملايين الكيبوردات، لغط بابلي كبير، يلف الكون، يدمج الزمان والمكان، يحْني الزمان والمكان بحسب أينشتاين. زالتْ الحواجز بفعل العولمة، الحريات إلى حد البله، الألسنة تلْهَج لهَجَاً، لكن الفهم معدوم. الطاقات التواصلية الجديدة مدهشة، لكن الفهم معدوم. الشبكات العالمية، فورية، آنية، لكن الفهم معدوم. مشكلة الولايات المتحدة الأمريكية، أنها ادَّعتْ أن اللعنة البابلية، هي عطية مُبَارَكَة، وهي مَنْ ستقوم بتوزيع العطية على العالَم أجمع. تؤكد أمريكا أن تويتر والفيس بوك، خير، وليسا لعنة. لكن تويتر جاء بدونالد ترامب رئيساً على عكس ما كانت تتمناه أمريكا. وأسف مؤسس تويتر على أن أداة التواصل الاجتماعي التي أوجدها كانت وسيلة فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية. بابل خارج السيطرة. الشبكة العنكبوتية البابلية، رغم أن قوامها لغط ألسنة إلا أنها مقروءة في كلمات، ورموز، وعلامات، أكثر مما هي مسموعة كما يقول جاك دريدا. لغط ألسنة خرساء. كل كلمة، كل رمز، كل علامة، تثير شكوكاً لا تنتهي. تحفيز على النظر في كل الاتجاهات.

في فيلم "بابل" للمخرج أليخاندرو غونزاليس 2006، هناك ثلاث حكايات درامية، تدور أحداثها في المغرب، والمكسيك، واليابان، والخيط الرابط بين الحكايات الثلاث، واهن شاحب، كخيط العنكبوت، واللغة ممزقة بين الإسبانية، والعربية، والإنجليزية، واليابانية. الزمان والمكان حاضر أبداً، لا ماض، ولا مستقبل. والنقل بين حكاية وأخرى، فوري وآني، وكأنَّ المخرج لا يقطع مسافة بين حكاية وأخرى. براد بيت وزوجته كيت بلانشيت، سائحان أمريكيان في رحلة إلى المغرب، لتجاوز أزمة شخصية. وفي نفس الفضاء البابلي، طفلان مغربيان قام والدهما بشراء بندقية صيد من فلاح مغربي، حصل الأخير عليها من سائح ياباني جاء للمغرب في رحلة صيد. الطفلان يطلقان النار على أهداف جبلية. الصغير أكثر حذقاً، ويصوب على حافلة بعيدة، تسير بين الجبال. الرصاصة تخترق عنق كيت بلانشيت. هنا يحكم المخرج على الطفل العربي، بأنه شرير بالفطرة، وهو حكم أشد قسوة من حكم أن العربي اليافع، إرهابي في عين الغرب. أليخاندرو غونزاليس مكسيكي، ويتبنى آراء سيده الهوليوودي. يحاول براد بيت إنقاذ زوجته، بمساعدة مترجم، يأخذه إلى قرية قريبة فيها طبيب شعبي. يعتقد الجميع أن الحافلة تعرضت لهجوم إرهابي.

على الجانب الآخر في اليابان، هناك الفتاة شيكو ابنة السائح، مدير البنك الذي سبق، وأن انتحرتْ زوجته، وهو أيضاً الذي أهدى الفلاح المغربي بندقية الصيد. شيكو الصماء الخرساء التي تعاني من عزلة قاسية، تحب الضابط الياباني الذي جاء يتحرى مسار بندقية الصيد. شيكو أكثر الشخصيات تعبيراً عن المجاز البابلي، وخيطها الواهن يهز الشبكة العنكبوتية كلها. حالة شيكو هي الحالة المثالية، المثالية في سخريتها لما تدعيه العولمة من ارتقاء وتقدم في التواصل. صماء بكماء في وسط الضباب البابلي. من ضمن إنجازات المخرج أليخاندرو غونزاليس في فيلم "بابل"، هو الأداء القوي للممثلة اليابانية رينكو كيكوتشي.

الحكاية الثالثة تدور بين الولايات المتحدة والمكسيك. حكاية المربية المكسيكية إميليا التي تحتضن طفلي براد بيت وكيت بلانشيت، وبسبب سفرها إلى المكسيك، لحضور حفل زفاف ولدها، ولأنها لم تجد مَنْ يبقى مع الطفلين، نراها تغامر بأخذهما معها، وبشكل غير قانوني، خارج أمريكا. يتعهد ابن شقيق إميليا، برحلة العودة، لكنه يتشاجر مع رجال الأمن على طريق العودة، ويهرب تاركاً إميليا والطفلين. تعثر الشرطة على إميليا، وتقوم بإجراءات ترحيلها، لأنها خالفت القانون الأمريكي، بينما يضيع الطفلان. يصف بورخيس مكتبة بابل، بأنها الكون الذي يتألف من عدد غير محدد، وربما لا حصر له، من أروقة مسدسة الزوايا، بها آبار تهوية واسعة في الوسط، محاطة بحواجز بالغة الانخفاض. انطلاقاً من أي واحدة، من هذه المسدسات الزوايا، يمكن رؤية الطوابق السفلى والعليا دونما نهاية.