صورة تعبيرية.(أرشيف)
صورة تعبيرية.(أرشيف)
الجمعة 27 أكتوبر 2017 / 20:07

دعونا وفقرنا

لطالما تصورنا بأن علّة البسطاء والكادحين ومحدودي الدخل في مواقع التواصل الاجتماعي هي خيارهم بالعدو خلف حياة لا يطالونها، وانصياعهم من تلقاء أنفسهم لمعايير الأغنياء والمشاهير

كانت مصدومة بشدة بعد أن وفدتها رسالة من مجهول في أحد مواقع التواصل الاجتماعي تقول: "تبا لكِ، لا لشيء سوى لأنكِ تحظين بحياة أروع من حياتي". تنهدت بتعب، فحياتها أروع من حياتي أنا كذلك.

ولكني تنهدت بالمقام الأول لأنها راحت تجرني جراً إلى ذلك الموضوع العقيم الممل المكرر حيال ما يُعرض في هذه المواقع من رفاهية ومظاهر للثروة، وهو موضوع استُنزف كتابة ونقاشاً وبحثاً وتحليلاً دون أن يرسو بي على بر.

ولهذا عرفت مسبقاً ما الذي توقعت مني قوله.

فصاحب التعليق مريض مختل، وهو أحد أولئك الذين من الحري بهم تنقية قلوبهم بالقناعة، وحبذا لو "مد رجله على قد لحافه" عوضاً عن مطالبة غيره بالنوم في العراء.

فلطالما تصورنا بأن علّة البسطاء والكادحين ومحدودي الدخل في مواقع التواصل الاجتماعي هي خيارهم بالعدو خلف حياة لا يطالونها، وانصياعهم من تلقاء أنفسهم لمعايير الأغنياء والمشاهير عما هو ثمين، ومبهر، وجدير بالاحتفاء.
  
إننا نلومهم باستمرار باعتبارهم إنما يصنعون جحيمهم بأنفسهم، ومتى ما خبت سعيرها بالقليل من الطمأنينة، أضافوا إليها وقود الأسى والانزعاج عبر متابعة من يرفلون في الثروات والكماليات.

وواقعياً، لا أعتقد أنه من المنصف أصلاً أن نطالب أولئك الأغنياء والمرفهين بأن يضعوا "فلتراً" من المراعاة المفرطة على ما يوثّقون من لحظات، أو يكتبون من تدوينات، أو يشاطرون الناس من أخبار. ليس لأنهم ملزمون بالضرورة بأن يحدّثوا بنعمة ربهم عليهم –وهو عذرهم المفضل للتباهي- ولكن لأن من حقهم كبشر ألا يغدو متصنعين ومتكلفين.

من حقهم أن يكونوا أنفسهم، وأن يحتفظوا بعفويتهم. ولكن ما اكتشفته متأخرة هو أنهم يرفضون تماما أن يكفلوا ذات الحق لغيرهم.

نشر مازن كوفي، وهو طفل سوداني يقيم في السعودية، مقطع فيديو مصوّر لمنزل أسرته الجديد عبر "يوتيوب"، فإذ بالعالم المحيط به يعتبر فرحته بالمنزل الصغير مدعاة حقيقية للتعجّب والتفكّر والتأمل، حتى راحت البرامج التلفزيونية تستضيفه، والشركات تتعهد بمنحه الهدايا، وحسابات مواقع التواصل الاجتماعي تسطّر الملاحم في قناعته ورضاه!

لم يكن مازن وحده. فكثيرون هم من يصورون لقم الزيت والزعتر كما يتفنن المرء منكم أمام صحون "الكوردون بلو"، ويعرضون قراهم المتواضعة كما تستعرضون أنتم رحلاتكم إلى العواصم الأوروبية.

لقد أثبتوا لكم قدرتهم الحرفية على الانعتاق من تلك المعايير التي تتصورونها تكبّلهم، وعلى التحرر من سجون مظاهركم ورفاهيتكم، والتي تعتقدون أنهم يتمنون الخلود فيها أصلاً. لقد أثبتوا بأنهم قادرون على الاكتفاء بعفويتهم وبساطتهم، وبأن تُشبع فيهم ما يحتاجونه من جمال وبهاء.

ولكنهم متى ما فعلوا ذلك، تأبون إلا العودة لاستعبادهم بشفقتكم المقنّعة، وإذلالهم بما لا يليق من الاستغراب والانبهار والتصفيق، وكأن قناعتهم استلزمت قدرات خارقة تفوق طاقة البشر الاحتمالية.

تباً لكم، لا لشيء سوى لأنكم تقطعون كل طرقهم إلى حياة أروع.