شعار "لا للتطبيع".(أرشيف)
شعار "لا للتطبيع".(أرشيف)
الأحد 29 أكتوبر 2017 / 20:05

غواية وهواية إلحاق الأذى بالذات..!!

تحويل مقاومة "التطبيع" إلى ما يشبه حملة لصيد الساحرات يتجلى كأحد النتائج المحتملة لميل متزايد للمحافظة والتشدد بالمعنى الاجتماعي

نشب سجال حاد ومفاجئ على منصّات إعلامية عربية وفلسطينية حول "التطبيع" في الآونة الأخيرة. وثمة، في الواقع، ما يبرر وضع الكلمة بين مزدوجين لأنها تفتقر إلى معايير واضحة، وتخضع لأهواء وتحيّزات سياسية في كل الأحوال. كانت مناسبة السجال، هذه المرّة، الدعوة إلى مقاطعة وإدانة مخرج لبناني زار إسرائيل في وقت سابق، وأخرج فيلماً عن الحرب الأهلية، ووضع الفلسطينيين في لبنان.

والملاحظ، هنا، إذا وضعنا المشاعر الملتهبة جانباً، أن "التطبيع" عاد إلى الواجهة بطريقة تعيد التذكير بما كان عليه الحال في بدايات أوسلو في أواسط تسعينيات القرن الماضي. وعلى الرغم من حقيقة أن جهوداً فكرية وثقافية كثيرة بُذلت في هذا الشأن لتعريف وتفسير ما يُدعى "بالتطبيع" إلا أن السجال الأخير يدل على عدم تحقيق تراكم بالمعنى الفكري، أو حتى على رفض ما تراكم، وعلى العودة إلى المربع الأوّل.

وينبغي، في هذا السياق، التذكير بأهم ما جاء من تعريفات تعود إلى أواسط تسعينيات القرن الماضي، وفي القلب منها أن "التطبيع" يعني القبول برواية الآخر الإسرائيلي حول نشأة وتطوّر الصراع في فلسطين وعليها، والتنازل عن الرواية الفلسطينية ومفرداتها الرئيسة من نوع الاستيطان الكولونيالي الصهيوني، والتهجير القسري، لإنشاء الكيان الإسرائيلي على أنقاض فلسطين، وحرمان الفلسطينيين من الحق في تقرير المصير، وكل ما تلا ذلك من حروب واحتلال منذ العام 1948.

ومع ذلك، تبدو مسألة التراكم أهون المشاكل إذا ما قورنت بحقيقة أن عدداً من المجابهات الأخيرة، التي وقعت في حقلي الثقافة والسياسة في فلسطين، تجلّت بطريقة صادمة تماماً. فقد رُفض وجود بعض الساسة الوطنيين في مؤسسات أكاديمية في الضفة الغربية، من أمثال محمد بركة، وأيمن عودة، بدعوى أن الموافقة على حضورهم تعني "التطبيع" طالما أن هؤلاء أعضاء في الكنيست الإسرائيلي. وفي السياق نفسه تعرّض الفنان الفلسطيني محمد بكري، الذي زار لبنان، وعرض مسرحية "المتشائل" لإميل حبيبي هناك، لانتقادات تندرج في سياق ما يدعى بمقاومة "التطبيع".

ثمة أمثلة كثيرة في هذا الشأن. وما يستحق الاهتمام أن الحملة التي كانت محصورة في أوقات سابقة في أوساط محلية طلابية وحزبية راديكالية، ويسارية في أغلب الأحيان، شهدت في أحدث تجلياتها التحاق حملة المقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل، التي كان مجال عملها حتى الآن في الأكاديميا والمؤسسات الثقافية الغربية، وحققت نجاحاً في هذا الشأن. والملاحظ أن الالتحاق بركب الحملة في سياقها المحلي قد اتسم على الصعيدين اللغوي والسياسي بالحدة والعنف.

وبقدر ما أرى الأمر، أعتقد أن مسألة مقاومة "التطبيع" اكتسبت حدّة، وأبدت طاقة متجددة، في الآونة الأخيرة، بعد خمول لافت في سنوات سبقت، نتيجة ما يتجلى من انسداد الأفق السياسي في الوقت الحاضر، وتراجع المكانة التقليدية للمسألة الفلسطينية في الإقليم والعالم.

وبصرف النظر عن التفاصيل والمبررات، إلا أن الطاقة المتجددة هذه المرّة، وتحويل جانب من نشاط حملة المقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل إلى الحقلين الثقافي والسياسي الفلسطينيين يدل، في جانب منه، على تحويل الموقف من "التطبيع" إلى مصدر للتنافس على رأس المال الرمزي في حقلي الثقافة والسياسة الفلسطينيين، وعلى محاولة لصرف ما تراكم من مكاسب في الخارج، بجهود ومشاركة شخصيات غربية (غير معنية بالتنافس على رأس المال الرمزي في فلسطين)، إلى عملة قابلة للصرف في سوق السياسة المحلية.

ومع ذلك، ثمة ما يستحق التذكير، ويستدعي التأكيد على أمور بعينها، وفي طليعتها أن تحويل مقاومة "التطبيع" إلى ما يشبه حملة لصيد الساحرات يتجلى كأحد النتائج المحتملة لميل متزايد للمحافظة والتشدد بالمعنى الاجتماعي، فثمة تجليات للأصولية يصعب حصرها هذا من ناحية، ويتجلى أيضاً، في ضيق متزايد من جانب السلطة بموضوعات تتعلّق بحرية النشر والتعبير، من ناحية ثانية. يعني الكل يغضب من، وعلى، الكل.

يمكن أن نرى في هذا نوعاً من الضغط من أعلى ومن أسفل، وفي كليهما ما يعني إفقار وتفخيخ الحقلين الثقافي والسياسي على حد سواء، ولأمر كهذا تداعيات بالغة السلبية في ظل انسداد أفق الحل السياسي، والتشاؤم من إمكانية ظهور ضوء من نوع ما في نهاية النفق. وليس في هذا ولا ذاك ما يدعو إلى، أو يبرر الكلام عن، نهاية قريبة لغواية وهواية إلحاق الأذى بالذات.