كتالونيون يتظاهرون دعماً للانفصال عن إسبانيا.(أرشيف)
كتالونيون يتظاهرون دعماً للانفصال عن إسبانيا.(أرشيف)
الإثنين 30 أكتوبر 2017 / 20:11

شمال يبتعد عن جنوبه

على الطرف الآخر من المتوسط تعيش إسبانيا الآن أياماً صعبة في مواجهة إعلان كتالونيا الاستقلال عن الدولة ما يعني انفصال الشمال عن الجنوب وتأسيس كيان جديد ينخرط في العمل الأوروبي المشترك إذا تم الاعتراف به

لم يعد الصراع بين الشمال والجنوب صراعاً كونياً فقط بين الشمال الغني والجنوب الفقير في العالم، بل وجد تعبيراته القطرية في الدول التي يسعى شمالها للابتعاد عن الجنوب تحت شعار الاستقلال والحق في دول وطنية في مناطق كانت ولا تزال جزءاً من أوطان أخرى أكبر وأكثر تأثيراً من الكيانات المبتغاة في مشاريع التقسيم الساعية إلى تفتيت دول ذات حضور سياسي وتأثير حضاري واضح في شرق المتوسط وأوروبا.

في شمال العراق بدأ الحراك الانفصالي عن الدولة بدوافع عرقية، حين رأى الأكراد العراقيون أنهم يستحقون دولة مستقلة يكون مشروعها تدشيناً لبناء الدولة الكردية في أجزاء من أراضي العراق وسوريا وتركيا وإيران.

وقد جاء الاستفتاء على الاستقلال في كردستان العراق مستفزاً لبغداد ولعواصم المحيط، وتوافق الأعداء المتقاتلون في الجبهات على رفض الاستفتاء والتوحد في مواجهة المشروع الكردي، ووجد الأكراد العراقيون أنفسهم في مواجهة مفتوحة ليس مع الحكومة العراقية فقط ولكن مع سوريا وإيران وتركيا أيضاً، وذلك لأن قيام دولة كردية يعني في النهاية قضم أجزاء من أراضي الدول الأربع يتركز جلها في شمال العراق وسوريا وإيران وفي شرق تركيا الذي يسمى أيضا "كردستان الشمالية".

على الطرف الآخر من المتوسط تعيش إسبانيا الآن أياماً صعبة في مواجهة إعلان كتالونيا الاستقلال عن الدولة ما يعني انفصال الشمال عن الجنوب وتأسيس كيان جديد ينخرط في العمل الأوروبي المشترك إذا تم الاعتراف به، ما يؤدي إلى إضعاف إسبانيا وتحجيم دورها في القارة العجوز بعد أن كانت تتقدم باتجاه الانتقال من العالم الثاني إلى العالم الأول المهيمن على الكوكب.

وعلى مسافة قريبة يتململ الشمال الإيطالي وتعمل منطقتا البندقية ولومباردا على محاولة تحصيل قدر أكبر من الاستقلال عن روما تحت شعار الحكم الذاتي الذي قد يقود في النهاية إلى رفع شعار الاستقلال عن إيطاليا وبناء كيان سياسي جديد في حالة شبيهة بالتمرد الكتالوني.

وفي العمق الأوروبي، في قلب الإمبراطوية البريطانية العتيقة، يجاهر بريطانيو الشمال، وهم الاسكتلنديون برغبتهم في الانفصال عن لندن وإقامة كيانهم السياسي المستقل، ما يعني إضعاف بريطانيا وحرمانها من عائدات نفط بحر الشمال.

هو الشمال الذي يبدو أنه سئم من التعايش مع جنوبه وتمرد على مفهوم الوحدة الوطنية بدوافع سياسية واقتصادية واضحة. وإذا كان كتالونيو إسبانيا وشماليو إيطاليا وبريطانيا مدفوعين بحسابات إقتصادية رقمية في سعيهم للانفصال، فإن شماليي العراق وسوريا وإيران وتركيا مدفوعين بانحيازات عرقية للأمة الكردية في مواجهة ما يعتبرونه تذويباً لثقافتهم من قبل العرب والفرس والأتراك، كما يحضر الدافع السياسي أيضاً في المشروع الكردي الذي يحظى بدعم إسرائيلي معلن.

ويظل الانفصال شمالياً، ففي اليمن الذي مزقه التمرد الانقلابي، تمترس المتمردون الحوثيون وحليفهم الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح في الشمال، وما زال الانقلابيون الذين يسيطرون على النصف الشمالي من البلاد يرفضون العودة إلى الشرعية واستعادة الوحدة بين الشمال المتمرد والجنوب المحرر.

من قبيل المصادفة أيضاً، يعيش الفلسطينيون أوقاتاً صعبة منذ التمرد الانقلابي على السلطة، وهو التمرد الذي نفذته حماس في غزة، لتفصل جنوب الدولة الموعودة عن شمالها، ولتستكمل سلطة الشمال في رام الله ترسيخ الانقسام بإجراءات أخرجت المحافظات الجنوبية من نطاق خدمات السلطة ومسؤولياتها.

وفي سياق مشروع المصالحة بين السلطتين تتلكأ سلطة الشمال في رفع إجراءاتها العقابية للجنوب، وكأنها لا تريد إنهاء الانقسام، ليظل الشمال بعيداً عن جنوبه.

هي رياح الشمال، وهذا ليله الصعب الطويل.