آرثر جيمس بلفور. (أرشيف)
آرثر جيمس بلفور. (أرشيف)
الثلاثاء 31 أكتوبر 2017 / 20:03

وعد بلفور

لم يلتزم اليهودي الصهيوني بتحذير وعد بلفور في ال 100 سنة الماضية. ودفع الشعب الفلسطيني ثمن إجرام طرفين متآمريْن مُغتصبيْن

أعلنتْ تيريزا ماي رئيسة الوزراء البريطانية، أضعف مَنْ تولى رئاسة الوزراء في العهد الحديث، طويلة القامة دون سبب واضح، التائهة في خيبة البريكست، المُعرَّضة للسخرية الدائمة في الصحف والمجلات، أن بريطانيا ستحتفل بالذكرى المئوية لصدور وعد المجحوم لا طيَّب الله ثراه، آرثر جيمس بلفور، وهو الوعد المشؤوم بإقامة وطن قومي لليهود الصهاينة على أرض فلسطين. ونص الوعد هكذا. "وزارة الخارجية.. في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1917. عزيزي اللورد روتشيلد، يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عُرض على الوزارة وأقرته: إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين، للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها، لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يُفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر. وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح. المخلص آرثر جيمس بلفور".

كلمة العطف في بداية خطاب بلفور، والتي توحي بقدرة القوي على المنح والمن، لا تنسجم مع كلمة التذلل والتحبب في نهاية الخطاب، والتي تبعث رجاء إحاطة للاتحاد الصهيوني، رجاء إحاطة يتمنى الرضى السامي. في لقاء أخير مع المفكر الراحل إدوارد سعيد، ورداً على سؤال هل للصهاينة نصيب تاريخي في أرض إسرائيل، أجاب: بالطبع لهم نصيب، لكن ليس لهم النصيب الوحيد أو النصيب الأكبر. للعرب نصيب أكبر بلا شك، لقد كان لهم تاريخ أطول من المكوث الفعلي في أرض فلسطين. لو تأملنا تاريخ فلسطين، سنجد أبحاثاً أجراها علماء تاريخ الإنجيل في هذا المجال، سنجد فيها أن المدة الزمنية التي سُميت في العهد القديم بزمن بني إسرائيل، والتي مكث فيها اليهود فعلياً في أرض فلسطين، تتراوح بين 200 سنة إلى 250 سنة. لكن كان هناك أيضاً الآشوريون، والبابليون، والفلسطينيون، والكنعانيون، ولذلك فمن التعصب أن نأخذ أحداً من تلك الشعوب، ونقول له: أنت مالك هذه الأرض. هذا غير منطقي، غير عقلاني. وفي كتاب "الاستشراق"، يفضح إدوارد سعيد القناع الأخلاقي الديني لوجه بريطانيا القبيح، الاستعماري، فللوزير والبرلماني الشهير آرثر جيمس بلفور، وفي سياق آخر يتعلق بجدوى البقاء على احتلال مصر، كلمات إدانة للشرقيين عامةً، ووصفهم بأنهم يفتقدون المنطق العقلاني الغربي، ومتعصبون بالفطرة، وأنه خير لهم أن يقوم الغربي بتمثيلهم، لأن الشرقي لا يستطيع تمثيل نفسه.

 هل كان آرثر جيمس بلفور يعني ضمناً اليهود الشرقيين؟ أم أن العقل الغربي المنطقي القياسي، عنده شرقي، وشرقي بشرطة؟ كيف يستقيم المنطق، فخر الحضارة الغربية؟

للإجابة على السؤال المتناسل كخِلْفَة الأرانب، قد نقترب من رأي آفي شلايم الكاتب البريطاني الإسرائيلي، القائل بأن وعد بلفور كانت وراءه حسابات تتعلق بمصالح الإمبريالية البريطانية، التي ستُخْدَم على أكمل وجه من خلال التحالف مع الحركة الصهيونية في فلسطين.

 وبما أن فلسطين كانت تتحكم في خطوط اتصال الإمبراطورية البريطانية مع الشرق الأقصى، وكانت فرنسا حليف بريطانيا في الحرب ضد ألمانيا، وتنافس في ذات الوقت بريطانيا في السعي لبسط نفوذها على فلسطين. وكانت فرنسا وبريطانيا توافقتا بموجب اتفاقية سايكس- بيكو 1916، على تقسيم الشرق الأوسط إلى مناطق نفوذ بينهما، ووضع فلسطين تحت إدارة دولية. ربما كان السبق المفاجئ من بريطانيا بإعلان وعد بلفور تحايلاً على جملة "إدارة دولية"، فإذا اعترضتْ فرنسا، فكأنها تعترض حلم اليهود في إقامة وطن قومي. وربما أيضاً وعد بلفور كان الحل العملي لتخليص بلدان المسيحية إلى الأبد من اليهود، ببشرتهم الصفراء المكنونة وراء حارات ضيقة سد لا يدخلها الهواء، وبأنوفهم المعقوفة المستنشقة بخبث ثياب كل غربي، وبأصابعهم المرتعشة المدببة، وهي تخفي الذهب، وتعجن خبزاً شاذاً بدون خميرة، وبدم طفل مسيحي في عيد الفصح، كما رصد تاريخ طقوسهم القاتمة، أمبرتو إيكو في روايته "مقبرة براغ".

أعود إلى فكرة "التمثيل" الهامة التي طرحها إدوارد سعيد في كتاب "الاستشراق". في نص وعد بلفور، تحذير كاذب، وهزيل، يؤكد على عدم انتقاص الحقوق المدنية والدينية للطوائف الأخرى. وكأنَّ الغربي يقول لليهودي الصهيوني: أنت رغم المساندة والدعم، ما زلتُ شرقياً، غير قادر على تمثيل نفسك تماماً، لكنك شرقي بشرطة، أي من الممكن أن تُمثِّل نفسك في وطنك الممنوح، نصف تمثيل، على أن تكون الوصاية والرقابة النهائية لي، للغربي مبتكر التعبير العقلاني عن الذات. لم يلتزم اليهودي الصهيوني بتحذير وعد بلفور في ال 100 سنة الماضية. ودفع الشعب الفلسطيني ثمن إجرام طرفين متآمريْن مُغتصبيْن، أو كما قال الكاتب البريطاني، يهودي الأصل، آرثر كوستلر، بمعنًى آخر: لدنيا هنا شعب يعد شعباً آخر بأرضَ شعب ثالث.