صورة تعبيرية.(أرشيف)
صورة تعبيرية.(أرشيف)
الأربعاء 1 نوفمبر 2017 / 20:21

نحن الشعوب.. مَن نحن؟

الاستعمار وحّد بلداناً بقدر ما جزّأ بلداناً، أو أكثر. وهو في حالات، كالعراق أو السودان مثلاً، بالغ في التوحيد على نحو يصعب أن يحتمله الاجتماع الأهليّ القائم

حين تلفّظت موسكو مؤخّراً بتعبير "مؤتمر الشعوب السوريّة"، بدا الأمر غريباً جدّاً. بدا أيضاً موضوعاً لاستهجان واسع. فالسائد والمتعارف عليه أنّ هناك شعباً سوريّاً واحداً. لا بل إذا كان تعبير "شعب سوريّ" مفهوماً، بسبب وجود دولة سوريّة واحدة، فإنّ ثقافتنا السياسيّة حفلت بتعابير "الشعب العربيّ" و"الوطن العربيّ" و"الأمّة العربيّة" و"الأمّة الإسلاميّة" ممّا يستحيل إسناده إلى دولة واحدة بعينها. أكثر من هذا، راج منذ ثلاثة عقود تعبير "الأمّة العربيّة والإسلاميّة"، علماً بأنّ الفارق بين "الأمّة العربيّة" المفترضة و"الأمّة الإسلاميّة" المفترضة يكاد يقارب المليار إنسان!

تنمّ تلك الاستخدامات اللفظيّة والمفهوميّة عن تخبّط لا بأس به في وعينا لجهة فهمنا أشكال الاجتماع السياسيّ. فهي جميعاً (ما خلا مفهوم "الأمّة" الإسلاميّ) مستقاة من التجارب الأوروبيّة في بناء الأمم والأوطان. وبما أنّ علاقتنا بتلك التجارب شابَها التحفّظ الدائم، إن لم يكن العداء، بسبب الماضي الاستعماريّ، فقد انطوى فهمنا على اختلاط وتضارب. فوق هذا، وبسبب اتّهامنا للغربيّين من أصحاب تلك المفاهيم بـ "تجزئتنا"، ذهبنا في عشوائيّة الاستخدام خطى أبعد، كما لو أنّنا بذلك نردّ على "تجزئتنا"، أو نتحدّاها.

على أنّ انقلاب الثورات العربيّة إلى حروب أهليّة مقرونة بنزاعات إقليميّة، بدأ ينبّهنا إلى مشكلة التعابير واستخدامها، وخصوصاً إلى مدى مطابقتها واقع الحال. وإذ ساور بعضَنا أنّنا نشبه الدولة – المدينة كما عرفتها اليونان القديمة أكثر ممّا نشبه الدولة – الأمّة التي أسفرت عنها تجربة الحداثة السياسيّة الأوروبيّة، اتّجه بعض آخر إلى مساءلة نظريّتنا القديمة عن "التجزئة الاستعماريّة" لنا. ذاك أنّ الاستعمار وحّد بلداناً بقدر ما جزّأ بلداناً، أو أكثر. وهو في حالات، كالعراق أو السودان مثلاً، بالغ في التوحيد على نحو يصعب أن يحتمله الاجتماع الأهليّ القائم.

وإذا جاز لي الاستشهاد بتجربة شخصيّة، فقد نشرت قبل سنوات ثلاث، بمشاركة الزميلة بيسان الشيخ، كتاباً سمّيناه "شعوب الشعب اللبنانيّ"، كان حصيلة جولات قمنا بها في عديد المناطق اللبنانيّة. هناك تأكّد لنا، نحن الاثنين، كم تتباين هموم "الشعوب" اللبنانيّة وكم تختلف خياراتها المبنيّة على نظرتها إلى مسائلها الراهنة المطروحة. هكذا بدت "ثقافاتها"، التي يُفترض أنّها فرعيّة، أشدّ فعلاً وتأثيراً من "ثقافتها" التي يُفترض أنّها وطنيّة وجامعة.

على أيّة حال، يتبدّى اليوم أنّ وجهة النقد والتشكيك التي انطلقت قبل سنوات قليلة باتت مدعوّة إلى المراجعة: ذاك أنّ نتائج المحاولتين الاستقلاليّتين/ الانفصاليّتين في كردستان العراقيّة وفي كاتالونيا الإسبانيّة إنّما تعرّضت لانتكاس مشهود. وأغلب الظنّ أنّ الدول الأوروبيّة كما دول الشرق الأوسط إنّما وحّدها الخوف على نظام الدولة القديم، بل الرعب من تعرّضه لانهيارات لا قعر لها ولا نهاية. وهنا بتنا أمام مشكلة قد نعيش طويلاً معها، من دون أن يلوح أيّ حلّ لها أو قدرة على الحلّ: فمن جهة، بدأ النظام المذكور، أقلّه في الشرق الأوسط، ينهار فعليّاً، على ما تدلّ تجارب كثيرة وعواطف وإرادات أكثر. ومن جهة أخرى، لن يكون مقبولاً إنهاء هذا النظام أو التفكير في بدائل له تُقنع المتضرّرين والمتذمّرين منه. ثمّ إذا جاز القول إنّ حقبة الحرب الباردة، ما بين أوائل الخمسينات وأواخر الثمانينات، شكّلت الحاضن والحامي لذاك النظام، فإنّ البعثرة التي يعيشها العالم اليوم لا توفّر التوازنات المطلوبة للإبقاء عليه ولضمان اشتغاله.

ما العمل إذاً؟ بل مَن نحن، وكيف سنعرّف أنفسنا في المستقبل الغامض القريب؟