امرأة تحمل لافتة تطالب كتب عليها :العلمانية...جميع الحقوق محفوظة.(أرشيف)
امرأة تحمل لافتة تطالب كتب عليها :العلمانية...جميع الحقوق محفوظة.(أرشيف)
الأربعاء 1 نوفمبر 2017 / 20:15

وجوه العلمانيّة

في مجتمعاتنا قد لا تكون المشكلة اندماج الدولة والدين بحيث يكفي استقلال الدولة بأمرها. المشكلة الأكبر هي إندماج المجتمع بعلاقاته وتنازعاته وتراتبه في الدولة

لم تكن الانتفاضات العربيّة الراهنة بعيدة عن موضوع الدين والدولة، لقد طرح الموضوع غالباً من جهته المعكوسة، طرح موضوع الدولة الدينيّة، في حين طرح في الوقت نفسه موضوع الديمقراطيّة، والموضوعان لا يتواقتان تاريخيّاً ولا مفهوميّاً، لكنّه الظرف العربي الّذي تختلط فيه الأزمنة والمفاهيم والخطط والاستراتيجيات، لا تختلط فحسب بل تتناقض أحياناً وتتصارع، بحيث جرّت الحرب الأهليّة حروباً مجاورة ومتفاوتة، وبحيث انقلبت هذه الحروب بعضها على بعض، فلم يعد سهلاً تحديد ما جرى ولم يعد سهلاً أخذ جانب دون آخر، وصارت الحيرة والازدواج هما المسار الطبيعي، بل والسياسي والتاريخي كأننا بذلك خارج الزمن وخارج التاريخ.

العلمانيّة ظلّت صيغة مثقفين فحسب، وكانت في يوم وربما لا تزال خياراً من فوق تسبق به الطبقات الحاكمة المثقفين والجمهور وتمليه أو تملي من وحيه، ومن منظومته، خططاً وخيارات. في أمر كهذا لا نستطيع أن نستفتي الجمهور العربي في أيّ مكان. لا يسعفنا في ذلك لا التاريخ ولا الظرف ولا الثقافة الشعبيّة. لهذا لم يرفع شعار العلمانيّة كشعار غالب في أيّ من بلدان الانتفاضة. في التاريخ الإسلامي، كما وصل إلينا، لم تنفصل المؤسّسة الدينيّة عن السلطة بالقدر الّذي عرفه الغرب، وقلّما نجد بينهما تبارياً أوتصارعاً. كانت الدولة بأمرائها وقادة جندها ووزرائها وولاتها مندمجة في الدين لدرجة تمثيله والقيام بشعائره الأساسيّة. أهل السلطة، كبارهم على الأقّل، يؤمون المصلّين في الصلاة ويستفتون الشريعة في أحكامهم، فهم بهذا المعنى مفتون وصلتهم بالدين ترقى إلى أن يكونوا في مؤسسته في الحدود الّتي يكون فيها للدين مؤسّسة. هذه لا نستطيع أن نفصلها عن الدين، فالدولة هي الّتي تقوم بتطبيق الشريعة على الوجه الّذي يرتئيه الحكّام ومستشاروهم من المشتغلين في الدين.

ثم ّأنّ التاريخ الإسلامي عرف، بطبيعة الأمر، خلافات بين أهل الدين ورجال السلطة لكنّ هذه الخلافات، إذا استثنينا الخلافات بين الفرق والمذاهب الّتي كانت صراعاً على السلطة ذا أساس ديني لا خلافاً بين السلطة والمؤسّسة الدينيّة المحاذية لها، هذه الخلافات لم تكن عاصفة بحيث تشقّ الطريق إلى مذهب آخر في السياسة. صحيح أنّ حروباً ضارية قامت بين الفرق الإسلاميّة أعقبت مذابح واستبدادات وإضطهاداً، لكنّ هذا لا يقارن بالحروب الّتي قامت ضد الوثنيين فنحن لا نعرف شيئاً كهذا قام بعد انتصار الإسلام، كما لا يقارن بالحروب الّتي قامت بين الفرق المسيحيّة كتلك الّتي دامت مئة عام بين البروتستانت والكاثوليك.

ثمّ إنّ هناك أمراً يطبع كلّ تاريخنا ويكاد يشكّل عقدته هو أنّ هذا التاريخ لا يناظر المسار التاريخي الأوروبي، وهنا نقف عند قيام البورجوازيّة في أوروبا الّتي حملت معها ثقافة مغايرة تماماً للتراتب الإقطاعي الّذي كانت المؤسّسة الدينيّة في أساسه. حملت معها ثقافة بنظرة أخرى إلى الحريّة والفرد والدين.لا بدّ أن نقول أنّ البرجوازيّة حملت وجهة مختلفة في النظر إلى سلطان المؤسّسة الدينيّة وإلى ثقافتها. قامت هذه الطبقة الصاعدة يومها بتغيير التاريخ بحيث تغيّر مكان الفرد وحقوقه بما في ذلك الشأن الديني، كما تغيّر القانون والبنيان الإجتماعي.

من هذا يمكن أن نفهم لماذا لم تكن العلمانيّة شعاراً رئيسياً، الأمر الّذي يمكن أن نعدّه نقصاً فادحاً، لا لأنّ الدولة أفضل لها وللمجتمع أن تكون مشغولة بشؤون الدنيا ولأن أفضل للدين أن ينشغل بشؤونه، ولكن لأنّ الأمر يتعدّى ذلك، ففي مجتمعاتنا قد لا تكون المشكلة اندماج الدولة والدين بحيث يكفي استقلال الدولة بأمرها. المشكلة الأكبر هي إندماج المجتمع بعلاقاته وتنازعاته وتراتبه في الدولة. الدولة لا تنفصل عن الطائفة ولا تنفصل عن العائلة والعشيرة ولا تنفصل عن المنطقة ولا عن العرق او الشعب. بهذا المعنى فإنّ الدولة عالقة في شبكة العلاقات الإحتماعيّة لا تستطيع عنها فكاكاً. هذه العلاقات تتشابك في عمق الدولة وفي صميمها، ولأن الأمر كذلك فإن المهمة الكبرى هي تحرير الدولة، لا من هذه العلاقات لكن استقلالها النسبي عن المجتمع بكليّته.