رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ووزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون.(أرشيف)
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ووزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون.(أرشيف)
الخميس 2 نوفمبر 2017 / 20:12

أن نغضب بالشكل الكافي

يمكن، ويجب، تحويل هذه المناسبة إلى عملية اقلاع ناجحة وطويلة النفس في ملاحقة "نادي الفخورين" وأعضائه من "تريزا ماي" إلى غاسل صحون المستعمرين الذي يقيم في مكتب بسقف مطعم بالذهب في لندن

يعرف وزير خارجية بريطانيا، أكثر من غيره دون شك، أن مقالته الاحتفالية بمئوية وعد بلفور، و"المبادرة" التي ألحقها بمقدمة المدائح لـ"الوعد" ولـ"الدولة" التي نتجت عنه، يعرف جيداً انها لا تعني شيئاً، وأن ما سيظل منها هو "مديح اسرائيل" و"فخره بها"، وصورته وهو يجلس خلف نفس مكتب "بلفور" وتحت السقف المطلي بالذهب في وزارة الخارجية البريطانية مستعيداً، بشغف، ذكريات "غاسل الصحون" في "إحدى مستعمرات الجليل" في السبعينات من القرن الماضي، وهي مهنة ما زال الوزير، رئيس بلدية لندن السابق، ورئيس وزراء بريطانيا القادم، كما يعد نفسه منذ وقت طويل، مهنة لم يتوقف عن أدائها، فها هو يغسل صحون حكومة المستعمرين و"نتانياهو"، ويهاجم حركة المقاطعة لدولة الاحتلال متهما الحملة بـ"الغباء"، دون أن يغفل الإعلان عن ولائه للحركة الصهيونية كلما تطلب الأمر ذلك، وغالباً دون أن يتطلب الأمر اعترافاً بهذا الشأن.

المقدمة الطويلة المنطوية على نفاق "مدهش"، تجعل من "بلفور" نعمة بشرية تمتلك رؤية ثاقبة عابرة للزمن، ومن سلسلة المجازر والحروب التي تسببت بها "إسرائيل" في المنطقة إنجازاً "ديمقراطياً" خالصاً، ثم استكمال كل هذا باقتباس من "عاموس عوز" يفيض بإنسانيته على الكارثة ويجعل من كل شيء صواباً، بما في ذلك نظام الأبارتيد وسبعة عقود من التهجير: "مأساة هذا الصراع لا تتمثل في أنه صراع بين الحق والباطل، بل "صراع بين الحق والحق". يقول عوز!

الوزير الذي يستحضر في جلسة أرواح واحدة ثلاثة لوردات إنجليز؛ آرثر بلفور صاحب "الوعد" 1917، وبيل الذي كان أول من اقترح حل الدولتين، ضمن تقرير اللجنة الملكية لفلسطين في عام 1937، وكاردون الذي صاغ قرار 242 / نوفمبر 1967، وخرج بشعار "الأرض مقابل السلام"، وهو، الشعار، الذي دفع المنطقة الى متاهة لا تزال فعالة و"تتمدد" بدهاء الى الآن.

غير بعيد عن اللوردات الثلاثة يمكن ملاحظة لورد رابع يتوارى في الظل هو اليهودي روتشيلد، الذي تلقى "الوعد" نيابة عن الحركة الصهيونية....، ثم "عصبة الأمم" التي كلفت بريطانيا بتهيئة الشروط لتنفيذه.

يرغب "بوريس جونسون" بشدة أن يكون لورداً، أو شيئاً يشبه "تشرتشل" الذي ألف عنه كتاباً كاملاً يفيض بالتمجيد.

وتبدو "فلسطين" سلماً ملائماً لمثل هذا الطموح، ولذلك تبدو "المبادرة"، الخالية من أي إبداع، التي ألصقها في نهاية مقاله في صحيفة "تلغراف"، خارج السياق وبائسة حد السخافة، "المبادرة" التي ألقاها، قبل أن ينهي المقال، في سلة "ترامب" متمنياً، بثقة، أن يجد "الرئيس الأميركي" حلاً عادلاً ونهائياً لـ"الصراع".

يمكن هنا تذكر الوصف، الذي ذهب مذهب النبوءة، الذي أطلقه عليه، مبكراً، نائب رئيس الوزراء البريطاني السابق، "نك كليغ"، بأن "بوريس جونسون": "دونالد ترامب، يحمل قاموساً".

الأمر ليس تشريح مقالة وسيرة وزير خارجية بريطانيا الحالي بمناسبة احتفال حكومة "تيريزا ماي" المحافظة بالذكرى المئوية لوعد بلفور، بقدر ما هو إعادة تعريف المعرف في أن النخبة السياسية في بريطانيا الاستعمارية، تحديداً في حزب المحافظين الحاكم بأقلية هشة، ما زالت تفكر بنفس عقلية ونفس مخيلة الامبراطورية الاستعمارية البائدة التي دبجت وعد بلفور عام 1017، حتى بعد أن فقدت اسنانها ومخالبها ومستعمراتها، ولكنها تبدو الآن اكثر ابتذالاً وسفاهة.

أمام هذا الابتذال الذي امتد على مدى قرن كامل وتوج بحفل عشاء "فخور" على شرف رئيس وزراء دولة الأبارتيد، يبدو مقال الرئيس "محمود عباس"، المنشور في صحيفة "غارديان"، بلغته الأكاديمية "المتوازنة" أقرب الى المناشدات وبالغ التهذيب، إذ ليس المطلوب هنا هو عرض كمية التنازلات التي قدمها الفلسطينيون والتي انتهت إلى الاعتراف المسبق بدولة "إسرائيل" دون الحصول على اعتراف الاحتلال بالدولة الفلسطينية، أو التكرار المحزن للمطالبة بحدود 1967، هذا سرد تاريخي نزيه، في مواجهة خطاب متعالٍ وعنجهي وفاسد.

في أحيان كثيرة يكون من الصواب للسياسي أن يغضب، الغضب سياسة أيضاً.

أو، وهذا مؤلم أيضاً، بيان المجلس الوطني الفلسطيني الذي طالب "بفتح ملف الجرائم ضد الشعب الفلسطيني منذ الانتداب البريطاني"، هذا المجلس الغرائبي فعلاً، عليه أن يخرج من غيبوبته ويشرع بفتح هذه الملفات بدل مطالبة "أشباح" لطفاء بفعل ذلك كما تعود منذ عقود.

الأرضية تبدو مناسبة الآن للتحرك وثمة بنية تحتية وفرتها شرائح عريضة من المجتمعات الأوروبية، في المملكة المتحدة على وجه الخصوص، تضم ائتلافاً عريضاً من النقابات والدوائر الأكاديمية والأحزاب السياسية وجماهير كرة القدم،...، وتلك المنضوية في سياق فعاليات حركة المقاطعة، أو تلك التجمعات الداعية لاعتذار بريطانيا عن "وعد بلفور" والأذى الذي ألحقه بفلسطين التاريخية والشعب الفلسطيني، وهي تجمعات تضم، للمفارقة أحفاد غاندي وبلفور ولويد.

والشروع عملياً برفع قضايا قانونية حول تعويضات الضرر الذي لحق بالشعب الفلسطيني أفراداً وجماعات، وتفادي تسليم هذه الدعاوى لموظفين يفتقرون للخبرة ولمعرفة والجدية، أو كما يفعل "المجلس الوطني" ومعظم الفصائل مطالبة "الأشباح" بالقيام بالعمل.

يمكن، ويجب، تحويل هذه المناسبة إلى عملية اقلاع ناجحة وطويلة النفس في ملاحقة "نادي الفخورين" وأعضائه من "تريزا ماي" إلى غاسل صحون المستعمرين الذي يقيم في مكتب بسقف مطعم بالذهب في لندن.