الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز.(أرشيف)
الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز.(أرشيف)
الأربعاء 8 نوفمبر 2017 / 19:54

طريق الكتابة

كان إدوار الخراط يقرأ علينا فصلاً من روايته "أمواج الليالي". وكان مستمتعاً بإيقاع صوته، بوقفاته الثقيلة عند النقطة، ووقفات أخف ثقلاً عند الفصلة. كنتُ أعرف على وجه التقريب، قاموس كلماته، وهو قاموس واسع. بدت لي جملته الأدبية، مصفوفة بعناية، لكنها في العمق، جملة ساكنة، جملة وصفية، تقوم على تكرار النعوت، ورصها رصاً، وعقاب تلك النعوت في اللغة، أنها تأخذ نفس الحكم الإعرابي، أي أنها لا تضيف جديداً للجملة. لم يُمثِّل اختيار إدوار لحمولة اللغة، وإهمال الدراما، خطراً على قناعاتي الفنية وقتها، لكن مع مرور الزمن، وإعادة القراءة، كانت الروايات تصرخ بفقرها الدرامي، وكثافتها اللغوية، المعلقة في الفراغ. الجمال الفاقع للكلمات، تحوَّل إلى رومانسية لا يسندها شيء.

لتأكيد قنَاعَة فنية، ولاستعادتها، وللاستمتاع بها، ولمجابهة قناعات أخرى، ولسد قبل كل شيء، حفرة في الروح، تبدأ عملية البحث، بذكرى عبارة من كتاب مُصنَّف لديك تحت بند، لا تنتهي إعادة قراءته، ولأن الزمن يهز القناعات، فكان لا بد من اختبار أقواها بين الحين والآخر، وللمفارقة قد تصعد قناعات كانت في وقت سابق لا تستحق حتى شرف المُجابَهَة، وهنا يشعر الواحد منا بخيبة أمل، ولا جدوى الحكم الجمالي، وأن الزمن له اليد العليا، وما القناعات الفنية إلا أقنعة يُبدِّلها الزمن على وجهه الحقيقي، وجه لا هو بالجميل، ولا هو بالقبيح، وجه معدوم الملامح.

ما يغفر للكاتب إخفاقه، هو عزم البدايات من جديد، للوصول إلى نقطة أبعد، لكن ضربة البداية، كضربة ذراع سبَّاح، يعوم في سيف شمس الغروب، الضربة قوية، وطويلة، لكنها لا تصل أبداً للسيف، ووعد الضربة القادمة، إغواء الغرق.

في زمن الدراسة، اخترتُ الطريق من البيت إلى المدرسة، وفاضلتُ بين الشوارع والبيوت والأشجار، قبل الثبات النهائي على طريق واحد. مدة المشي إلى المدرسة كانت نصف ساعة. ثلاثة شوارع بانحناءات وانكسارات، تستغرق عشرين دقيقة من المشي المتمهل ثم شارع طويل، يستغرق عشر دقائق. هناك بعض البيوت والأشجار تبعث الظلال والهواء البارد والصمت، وهي تحتل نصف مدة المشي. لو صادف وكان معي زميل في الذهاب أو العودة، تنهار صفات الطريق، وتنسد شرايينه، وكأنَّ الطريق لا يحتاج إلا لفردٍ، يقطعه بانتظام، ويؤكد صفاته.
  
كنتُ أشعر بالسعادة أمام وصفٍ مجازي يستعمل كلمة الطريق، وفي المُقابل عندما تكون كلمة الطريق تعني طريقاً حقيقياً ملموساً، يشعر به الواحد تحت قدميه، كنتُ أتخيل حجراً مُلقًى أكسبه الصمت والزمن ما يشبه الوجود.

ليس لأنني لم أكتب يوماً سطراً رديئاً، بل لأن اليأس يُلجمني أمام الجيد والرديء على حد سواء، وكأنّ ورطتي ليستْ مع الكتابة، بقدر ما هي مع مِهْنة الكتابة ذاتها. كنتُ أحلم بموت واحدة على يدي اليمنى، فتموت الثانية كَمَدَاً وإهمالاً على يدي اليسرى.

فكَّرتُ أنني لا بد من أن أكون في رحلةٍ، وأنني لن أكون ما أنا عليه حقاً، أي ما أنا عليه بالفعل قبل بدايتها، إلا في نهايتها، وفكَّرتُ أيضاً أن رحلتي لتلك النهاية، لن تكون إلا بلقاءٍ مع مَنْ أصبح هو نفسه مرتين، مرة قبل بدايتها، ومرة بعد نهايتها.

قبل نهاية الجزء الأول من رواية الأبله، نعرف بشكل عاصف أن الأمير ميشكين، بطل الرواية، ورث ثروة هائلة عن طريق قريبة له التي ورثتْ هي أيضاً تلك الثروة من قريب آخر في العائلة، وأنها ماتتْ، فآلت الثروة إلى الأمير ميشكين. لا يقدر على الميلودراما المُضَاعَفَة سوى دوستويفسكي، ولأن الميلودراما ذات السمعة السيئة تقول للكاتب المتوسط: توقَّف عند وراثة ميشكين لثروة قريبته، ولا تقل شيئاً عن القريبة. عَظَمِة دوستويفسكي أنه لا يتوقَّف. يكتب وكأنه يُقاتل الدراما.

كتب دوستويفسكي قبل الأبله 11 عملاً. وفي هذه الأعمال كانت صفات أبطاله تندرج تحت مفهوم عام، مفهوم الأبله، لكنه أخذ سنوات طويلة حتى يستطيع تسمية بطله بصفته المباشرة، الجارحة، الأبله. ليس احتمال الخجل ببعيد، لكن الأمر أيضاً أشبه بعودة إلى نبع أول. كأنه أطلق اسم الأبله على بطله، ليعرفه معرفة نهائية. ليقول كلمته الأخيرة في الأبله. مجرد إعلان الاسم من العرَّاب الروسي الكبير، يدفع القارئ إلى الرهبة. الجديد والعذب في الأمير ميشكين بطل رواية الأبله، يأتي على لسان شخصية الجنرالة، وهي تقول له: ظاهرك مثل باطنك.

حاول جيل دولوز الدفاع عن اختيار أكيرا كوروساوا، لرواية "الأبله"، لدوستويفسكي، ولم يتعرَّض لفيلم "الأبله" ذاته، ربما لأن فيلم "الأبله" لا يسعفه جمالياً كما يفعل فيلم "راشومون" أو فيلم "الساموراي السبعة". المشكلة أن دولوز لا يريد أن يصطدم بقاعدة جمالية قوية، يقرها هو نفسه، وهي أن الأفلام العظيمة لا تُصنع من روايات عظيمة. كأنّ كوروساوا لم يكن يعتقد أن رواية "الأبله" من المستحيل خروجها عن الجنس الأدبي، لكنه لم يُجرِّب حظه مع رواية أخرى لدوستويفسكي. ليس أمامنا سوى سوء الاختيار أو غرور كوروساوا، وطموحه في كسر قاعدة جمالية. ولأن دولوز لا يُفضِّل أن يرى سقطات الذين يمثلون له مادة جمالية للكتابة، كما لم ير سقطة فوكو الإيرانية الروحانية، ولم يُعلِّق عليها، هنا أيضاً وبمعنى الصمت، يعقد مُقارَنَة ضعيفة بين بطل الأبله، وبين بطل الساموراي. يقول على وجه التقريب، بأن بطل دوستويفسكي يبحث دائماً عن شيء أعمق بينما هو في مواقف قصوى، وكل موقف كان يمثل للبطل الشيء الأعمق، لكن ما أن ينخرط فيه، حتى يظهر له موقف آخر أعمق وأهم. هذا صلب دوستويفسكي بالفعل. خفة اليد تبدأ فقط عند الانتقال لبطل كوروساوا. هل مشكلة الساموراي التي تتلخص، أنه أصبح زائداً عن الحاجة، وفقد سيده القديم، وبالتالي فَقَدَ معنى وجوده، تشبه بحث بطل دوستويفسكي عن شيء أعمق؟ هموم النبالة عند الساموراي أبعد ما تكون عن هموم دوستويفسكي.