متحف الشاعر محمود درويش في رام الله.(أرشيف)
متحف الشاعر محمود درويش في رام الله.(أرشيف)
الخميس 9 نوفمبر 2017 / 19:38

المهرجان في رام الله

يطوف الشعر لثلاثة أيام بلياليها في فضاءات رام الله وساحاتها، وستسمع في أنحاء المدينة قصائد بلغات سكان الحوض القديم للحضارة الانسانية، وستسعى خلف الشعراء الأسئلة، العلاقة مع الجمهور والعلاقة بالأمكنة والوقت، المنبر والقاعة والفضاء العام

ليس من السهل تنظيم مهرجان دولي للشعر، الأمر يحتاج الى الكثير من الإعداد والدأب، والاطلاع على التجارب الشعرية المختلفة، وتوفر الامكانيات والدعم، الدعم المقصود هنا يتجاوز التمويل، دون شك، ويذهب نحو الشراكات الضرورية والمتخصصة التي يمكن أن تشكل شبكة رعاية لأي فعالية ثقافية ترغب في تخطي المحلية نحو التماس مع العالم. ولكن الأمر يبدو أكثر صعوبة وأشد تعقيداً حين يتعلق بمدينة تحت الاحتلال، رام الله مثلاً.

لعل أحد التحديات التي يمكن أن تواجهها رغبة مغامرة كتلك يكمن في أن الشعر، في تجاربه الأحدث، لم يعد فناً شعبياً قادراً على اجتذاب الجمهور أو اقناعه بمغادرة أماكنه المعتادة والتوجه إلى قاعة يصعد فيها أشخاص على خشبة العرض "يعبثون" في اللغة ويواصلون قول الأشياء الأليفة بمفردات غريبة.
الشعر أقل جاذبية الآن، لم يعد هناك شعراء يدوّخون المنبر بإيقاعات عالية، وقصائد تمتلئ حتى حوافها بمجاميع من الناس الساخطين، أو دروب معشبة يتمشى فيها عشاق يتعذبون وهم يقلبون اليأس مثل نبوءة راسخة، لا مجال ولا جدوى من تفاديها.

الشعراء، في أغلب تجاربهم الأحدث، يواصلون احتجاجهم على سطوة "الجمهور"، وتسلطه، وتدخله الفج في نصوصهم.

يبدو الأمر من هذه الزاوية محاولة متكررة لتحرر الشعر من "القاعة"، من "المجاميع" المبتهجة بغضبها وسخطها، من الدروب المعشبة ورعاية "اليأس"، من "الجدول" الصارم الذي يضعه نقاد لا يحبون الشعر، في الغالب، وجمهور يبحث عن "بضاعة" مجرّبة.
هي محاولة لاستعادة شرارة المغامرة، أو تحديثها، التي هي جوهر الشعر وملاذه.

هذا تبسيط مقصود ل"صراع" جوهري، ولكنه يجعل من فكرة تنظيم فعالية ثقافية بحجم مهرجان "أصوات المتوسط"، وفلسفته المنطلقة من فكرة "الذهاب" الى الجمهور وليس "استدعاء" التلقي، بكل ما يعنيه هذا "الذهاب" من تحريك لموقع الشعر وزحزحة مقعد المتلقي، وتهشيم قداسة قديمة أحتفظ بها الشعراء، وعبث واضح في مخيلة المتلقي وتبديد سكونها، يجعل من الفكرة البسيطة والعميقة تلك، مغامرة أقرب الى قصيدة موازية، ومحاولة لخلخلة "الأساليب المستقرة" في الكتابة والقراءة على نحو سواء.

تلك هي رؤية المهرجان المتوسطي الذي تأسس في مدينة "لوديف" في الجنوب الفرنسي، قبل عقدين من الزمن، قبل أن ينتقل الى مدينة "سيت"، مدينة الشاعر الفرنسي "بول فاليري" (1871-1945)، حيث ترتفع في مواجهة الخليج "المقبرة البحرية"، وهي التسمية المستمدة من قصيدة "فاليري" المدفون هناك :
"هذا السقف المستكين
حيث تتمشّى اليمامات بين المقابر وحفيف الشربين".

في السنوات الأخيرة توسع المهرجان ليحقق شعاره الخاص "أصوات حيّة من المتوسط الى المتوسط"، بحيث ظهرت نسخ من المهرجان على ضفتي البحر المتوسط: جنوا الايطالية، توليدو الاسبانية، سيدي بوسعيد التونسية، والجديدة في المغرب.

كيف يمكن أن نقدم هذه التجربة الغنية في مدينة تحت الاحتلال؟ بلاد يتحكم فيها الاحتلال الاسرائيلي بالبوابات والمنافذ، الاحتلال الذي لا يتورع عن إتلاف الكتب ومنع الشعراء من الوصول الى فضاء القراءة، رفض ضابط الاحتلال "منح" ثلاثة من الشعراء العرب تصريحاً لدخول فلسطين، وهي سياسة تشمل معظم الفعاليات الثقافية التي تنظمها المؤسسات الثقافية الفلسطينية، والتي تلقي بثقل مسؤولية مواجهتها على المؤسسة الفلسطينية، الرسمية والأهلية.
ذلك هو التحدي الآخر الذي رافق وصول مهرجان المتوسط الى رام الله، المدينة التي أقام فيها "محمود درويش" منذ التسعينيات من القرن الماضي، وحيث يرقد منذ صيف 2008 على تلة تشرف على المتوسط غرباً وعلى القدس جنوباً.

بين بول فاليري في "سيت" ومحمود درويش في "رام الله" يجري مثل أنهار عريضة، تواصل حمل جسورها، الشعر.
شعر المتوسطيين العظام من كفافيس الى لوركا والبيرتي وهوميروس وإيلوار وبودلير وريتسوس وحكمت والمتنبي ....

كان هذا جزءاً من الفكرة التي دفعت "مؤسسة محمود درويش" و "بلدية رام الله" لبناء هذا الجسر الممتد عبر ضفتي المتوسط، من خلال تنظيم "مهرجان رام الله الشعري" الذي افتتح في الثامن من نوفمبر(تشرين الثاني) الجاري بحضور أكثر من 24 شاعراً من مختلف بلدان المتوسط، وفريق المهرجان الأم في سيت وجمهور كبير من المثقفين ومحبي الشعر.

سيطوف الشعر لثلاثة أيام بلياليها في فضاءات رام الله وساحاتها، وستسمع في أنحاء المدينة قصائد بلغات سكان الحوض القديم للحضارة الانسانية، وستسعى خلف الشعراء الأسئلة، العلاقة مع الجمهور والعلاقة بالأمكنة والوقت، المنبر والقاعة والفضاء العام....
ولكنها أسئلة على الشعر أن يلقيها ويصنعها في مغامرته غير المأمونة والضرورية أيضاً.