غلاف كتاب الثقافة الجهادية: الفن والممارسات الاجتماعية للمتشددين الإسلامويين.(أرشيف)
غلاف كتاب الثقافة الجهادية: الفن والممارسات الاجتماعية للمتشددين الإسلامويين.(أرشيف)
الأحد 12 نوفمبر 2017 / 19:57

بعض الكتب يستحق التنويه

يستحق بعض الكتب التنويه والاحتفاء لا لأننا يجب أن نتفق، بالضرورة، مع كل ما تقول، ولكن لأنها تفتح أفقاً جديداً للنقاش بشأن ظاهرة بعينها، فانسداد الأفق في حقل مُعيّن يُفقر المعرفة، ويُسهم في اختزال وابتذال الواقع نفسه. وبهذا المعنى ثمة ما يبرر الإشارة إلى كتاب توماس هيغهامر، الصادر بالإنكليزية في أغسطس (آب) الماضي بعنوان: "الثقافة الجهادية: الفن والممارسات الاجتماعية للمتشددين الإسلامويين".

من الشائع، والصحيح، أيضاً، أن جماعات الإسلام السياسي، على اختلاف تسمياتها وراياتها، من الإخوان المسلمين إلى الدواعش، تعادي فكرة الثقافة بشكل عام، وهذا يصدق على كل منتجات الأزمنة الحديثة

يشغل هيغهامر منصب مدير أبحاث الإرهاب في المؤسسة النرويجية لأبحاث الدفاع علاوة على وظيفته كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في جامعة أوسلو. وعلى الرغم من حقيقة ما يبديه المختصون في حقول أكاديمية مختلفة، كعلوم السياسة والاجتماع والتاريخ والأدب، من تحفظّات إزاء علوم ومناهج خارج تخصصاتهم، إلا أن هيغهامر نجح في تحرير ونشر الكتاب المذكور، الذي يضم دراسات لعدد من المختصين، استناداً إلى تخصصات مختلفة، عابرة للحدود التقليدية بين العلوم والمناهج، تناولت فرادى ومجتمعة ظاهرة بعينها هي "ثقافة" الجهاديين الإسلامويين.

من الشائع، والصحيح، أيضاً، أن جماعات الإسلام السياسي، على اختلاف تسمياتها وراياتها، من الإخوان المسلمين إلى الدواعش، تعادي فكرة الثقافة بشكل عام، وهذا يصدق على كل منتجات الأزمنة الحديثة، بما فيها فكرة الدولة، والمجتمع المدني، والفردية، والعقد الاجتماعي، ومختلف التجليات الفنية والأدبية الحديثة. ومع ذلك، فإن هذا العداء لا ينفي حقيقة أنها تنتج وتستهلك نوعاً من الثقافة، فلا يمكن لجماعة أن تنشأ دون أدوات اتصال، وشيفرات سلوكية معيّنة.

هذه الشيفرات، بالذات، التي تشكّل مجتمعة "الفن والممارسات الاجتماعية للمتشددين الإسلامويين" هي ما يدعوه هيغهامر بالثقافة الجهادية، التي تضم مروحة واسعة من أنماط الملبس والمأكل والمشرب، وكذلك الموسيقى (الأناشيد)، وتفسير الأحلام (تحتل الأحلام والمنامات مكانة مركزية في ثقافة الجهاديين)، والسينما (أشرطة اليوتيوب الدعائية)، والشعر، وبلاغة الشهادة والاستشهاد، والبكاء، والصلاة، والدعاء. وبفضل هذه الأشياء مجتمعة يتمكن هؤلاء من التواصل، وتمثيل الجماعة، والتماهي معها، والتفكير بعقلها، والنطق بلسانها. وهي الأشياء نفسها، التي يرى فيها هيغهامر عتبة تمهيدية، فقد وقع الكثير من الأشخاص في قبضة الأفكار المتطرفة عن طريق الإنترنت، وما يتوفّر فيها من "ثقافة" الجهاديين، قبل الالتحاق الفعلي بصفوفهم.

لا يتسع المجال، هنا، لمزيد من التفصيل في شأن هذه "الثقافة"، ولكن إضافة هيغهامر تكتسب دلالة إضافية، وتُوّلد مزيداً من التداعيات والمفاهيم والأفكار، إذا ما نُظر إليها وفي الذهن ما ذهب إليه الفرنسي أوليفيه روا، وهو من أهم المختصين في شأن الإسلام السياسي، في كتابين مفصليين هما "الجهل المقدّس"، و"الجهاد والموت" (تُوجد ترجمات عربية للكتابين).

فقد طرح في الكتاب الأوّل فرضية انفصال الإيمان عن بيئته وخصوصياته الثقافية التقليدية، كظاهرة عامة في زمن العولمة، وطرح في الكتاب الثاني فرضية "أسلمة التطرّف"، لا "تطرّف الإسلام"، أي ضرورة النظر إلى ظاهرة الإرهابيين الإسلامويين، خاصة في أوساط الجاليات العربية والإسلامية المهاجرة في الغرب، بوصفها تعبيراً عن ثقافة شبابية عدمية ومتمرّدة أنجبتها العولمة، وعمليات التهميش وانسداد الأفق، وتحلل التقاليد الثقافية التقليدية، وبالتالي انفصال الإيمان عن خصوصيته التاريخية والثقافية. بمعنى آخر، يريد روا القول إن جذر الظاهرة الإرهابية ليس في الإسلام نفسه، بل في أسلمة التمرّد والعدمية بمفردات وتعبيرات إسلامية.

مهما يكن من أمر، لا يفوت المعني بما تثيره معالجات كهذه، تمثل فرادى ومجتمعة توسيعاً لأفق النقاش، من تداعيات وما تُولد من أفكار، الإشارة إلى أشياء ربما يدركها ويعيشها الموطن العربي، الذي يسمع الإذاعة، ويشاهد التلفزيون، ويقرأ الكتب، ويتصفّح الإنترنت، أكثر من الباحثين الأجانب، وفي القلب منها حقيقة أن الكثير مما يدعوه هيغهامر بالممارسات الفنية والاجتماعية للمتشددين تجد تجلياتها اليومية في منابر إعلامية في بلدان عربية مختلفة، لا يندر أن تكون رسمية أحياناً، وأن قشرة رقيقة من التظاهر "بالاعتدال"، وحتى الإفراط في "التقوى"، تحجب مضمونها المتشدد، ورسالتها المتطرّفة، التي لا تختلف في الجوهر عن "ثقافة" الدواعش.

وبهذا تسدي المنابر المعنية خدمة مجانية لهؤلاء. وإذا كان ثمة من خلاصة سريعة: ربما حان الوقت لمراجعة أشياء كهذه، في المنابر الإعلامية، والمناهج الدراسية، والفضاءات الاجتماعية، بعد سنوات طويلة من غض النظر، والتساهل، أو عدم الإحساس بالخطر، وحتى التواطؤ في حالات بعينها.