أولاد في حي مدمر في سوريا.(أرشيف)
أولاد في حي مدمر في سوريا.(أرشيف)
الثلاثاء 14 نوفمبر 2017 / 20:09

احتواءات أمريكية مزدوجة قبل أن تبدأ بطالة الجنود

جديد "الاحتواء"، في عام 2017 السوري، كان مناطق "تخفيف التوتر" التي فرضتها روسيا، في مقابل تصاعد الحرب ضد داعش. وفي كلا الجديدين لم يكن للولايات المتحدة دور مباشر

تطرح سياسة الاحتواء المزدوج التي نفذتها الولايات المتحدة بنجاح تجاه كل من العراق وإيران، في سنوات الحرب الثماني بينهما في ثمانينيات القرن الماضي، سؤالاً إن كانت صالحة للتطبيق بين النظام الأسدي والمعارضة المسلحة خلال حربهما الممتدة بلا نهاية وفق موازين القوى الحالية المرتبطة بإرادتي روسيا وأمريكا غير المتصادمتين علانية.

جديد "الاحتواء"، في عام 2017 السوري، كان مناطق "تخفيف التوتر" التي فرضتها روسيا، في مقابل تصاعد الحرب ضد داعش. وفي كلا الجديدين لم يكن للولايات المتحدة دور مباشر، لا في هندسة مناطق تخفيف التوتر، ولا في انتصارات "قوات سوريا الديمقراطية"، حتى لو لم تكن هذه الانتصارات لتتحقق إلا بدعم أمريكي مباشر لـ"قسد" بالتغطية الجوية، وبالمعلومات الاستخبارية.

إذاً، عن أي احتواء مزدوج يمكن أن نتحدث هنا، خاصة أن روسيا منحازة تماماً لدعم النظام وحلفائه من الميليشيات الشيعية، متجاهلة تماماً تحقيق حد أدنى من "الإنصاف" للمعارضة المسلحة التي نشأت في مرحلة متقدمة من الثورة السورية التي رفعت شعاراً واضحاً هدفه إسقاط النظام.

وبالتالي سيكون محل البحث في السؤال هو إن كانت أمريكا تحاول إعادة تطبيق سياستها التي نجحت في إضعاف كل من العراق وإيران، وأجبرتهما في النهاية على قبول إيقاف الحرب وفق نتيجة "لا غالب ولا مغلوب". ففي أصل النظرية أن أمريكا لم تشارك في تلك الحرب، بل فتحت دكاناً لبيع النصائح والسلاح لصدام حسين، بالتناوب مع إطلاق سماسرة السلاح الإسرائيليين ليبيعوا السلاح لإيران في الفضيحة التي اشتُهرت باسم "إيران غيت".

هنا، يمكن القول إن أمريكا تطبق هذه السياسة بشكل غير مباشر، دون تعالق علني مع النظام الأسدي، بل ودون علاقة واضحة حتى مع روسيا، كوكيل سياسي للنظام. فوق ذلك، لا توجد علاقة واضحة بين أمريكا والفصائل المعارضة المسلحة، فهي لم تقدم دعماً سياسياً، أو عسكرياً، أو مالياً، لهذه الفصائل، أو للمؤسسات السياسية المعارضة، واكتفت بـ"ممانعة" بعض الخطوات الروسية في محاولة لتعطيل نجاح روسي كامل وسريع لفرض حل منفرد دون التشارك فيه معها.

نعم، قد تكون أمريكا زودت المعارضة بصواريخ "تاو" التي خلقت نوعاً من الردع الموضعي لجيش النظام في مراحل مختلفة من الحرب بين النظام والمعارضة، لكنها لم تحسم موقفها في شأن ردع طيران النظام في قصف المدنيين، حتى قبل تورط روسيا في الحرب بشكل مباشر، ومشاركة طائراتها المنطلقة من قاعدة حميميم في قصف المدنيين وفصائل المعارضة دون تمييز بين هدف مدني وهدف عسكري.

والممانعة لروسيا قد لا تكون جزئية صغيرة في سياسة الاحتواء لموسكو. لكن كيف يكون هذا الاحتواء مزدوجاً إن لم يتضمن إيران؟ على كل حال، إيران والنظام شيء واحد، من وراء روسيا، وإن كانت أهداف إيران أبعد مدى من هدف النظام الأسدي الذي لا يهتم سوى باستمرار إدارته مزرعته سوريا.

أيضاً، من ملامح الاحتواء المزدوج الأمريكي للأطراف المتصارعة وجود بدائل مفترضة، تبدأ أولاً من النجاح في التحكم بمنابع الدعم المالي والعسكري للمعارضة المسلحة، وتجفيف هذا الدعم حين تريد. ولولا تبني تركيا للائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة، لغاية في نفس أنقرة، ودفع رواتب هيئته السياسية، وموظفيه البيروقراطيين، لانْفرط عقد الائتلاف منذ سنتين.

ثانياً، تتحكم أمريكا من خلال غرفتي "موك"، و"موم"، في الأردن وتركيا، بقرارات المعارضات في الشمال والجنوب، حتى لو كان ذلك بالتشارك مع ائتلاف أجهزة مخابرات دولية من بينها روسيا وإسرائيل وتركيا. والغرفتان تمكنتا من احتواء نزق وخوف كلٍّ من تركيا وإسرائيل. ولا يُقلل من وجاهة هذا الاحتمال لجوء أنقرة إلى التحالف مع روسيا بعد افتراق طريقها مع واشنطن، أو أخذ إسرائيل بزمام المبادرة في غاراتها الجوية على مواقع تسلح للنظام، أو لـ"حزب الله"، أو لإيران، على الأرض السورية.

ثالثاً، وهو الأهم، أن أمريكا تنظر إلى محور روسيا والنظام وإيران، كمعادل لمحور الفصائل السورية المعارضة و"قوات سوريا الديموقراطية"، وضمناً الأكراد، وإن كانت موازين التسلح تميل لمصلحة المحور الأول. ومن هنا يأتي حرص أمريكا على استمرار الحرب سنة أخرى، أو سنتين، كعامل سيؤدي حتماً إلى ضعف الحلفين معاً، في حال لم تستطع روسيا فرض الحل الذي تريده بسرعة. وفي جوهر هذه الفكرة أن خطر داعش أصبح في حده الأدنى، ولم يعد يسيطر على مدن كبيرة. كما أن معارك "قسد" بلغت ذروتها، ولا مزيد لتقوم به بعد معارك ريف ديرالزور، وحين يعود الجنود إلى ثكناتهم سيدخلون في حالة بطالة. وتنطبق موضوعة البطالة على سوق السلاح الروسي، وعلى ميليشيا "حزب الله"، والميليشيات الإيرانية والعراقية.

على الجانب الكردي، سينتظر الأكراد بدء استحقاقات الحل السياسي الكردي، وموسم المساومات الدولية، بما فيها مساومات أمريكا التي لن تدفع شيئاً للأكراد، حسب سيرة الأكراد مع القوى الدولية التي بدأت التلاعب بأحلامهم منذ مئة عام. هنا، قد نشهد نشوء حالة "خوارج" كرد على قياداتهم، خاصة أن الفارق كبير بين الحد الأدنى والأقصى للطموح الكردي، بين المعتدلين والراديكاليين.

والنتيجة ستقول إن استخدام قسد في حرب داعش كان فيه احتواء مزدوج، فخطر التنظيم اختفى دون أن يختفي التنظيم نفسه، حيث لايزال في إمكانه تنفيذ فصول من دوره الوظيفي على شكل غزوات في باديتي العراق وسوريا، بينما ستخرج "قسد" أقوى إعلامياً، مع جرعة ممتازة من تدريب جنوده على القتال الحي، لكن ذلك لن يجدي نفعاً في تحقيق سلام الأكراد والعرب في الجزيرة السورية، فالانتصارات في الفراغ الذي اضطر العرب لتركه للأكراد ليس النصر الذي قد يقود إلى سلام واتفاق على تحقيق الأكراد حقوقهم القومية، أو السياسية، أو الثقافية. والأرجح أن بطالة الجنود ستفتح الباب لاحقاً لتوقع حرب كردية عربية بالأصالة يخسر فيها الطرفان احتمالات السلام القريب، خاصة أن العين التركية تترصد الساعة التي ستعلن فيها أمريكا رفع يد الحماية عن الأكراد السوريين.