الجهادي جون يستعد لقطع رأس أسير لدى داعش.(أرشيف)
الجهادي جون يستعد لقطع رأس أسير لدى داعش.(أرشيف)
الأحد 19 نوفمبر 2017 / 20:01

وسيلة إيضاح إضافية عن جهل مقدّس..!

لندن تحوّلت منذ زمن "الجهاد الأفغاني" إلى عاصمة لتنظيمات وأيديولوجيا الإسلام السياسي، وأن ذلك لم يكن ليحدث دون غض للنظر، من نوع ما، من جانب السلطات

في مثل هذا الشهر قبل عامين، أطلقت طائرة أمريكية مسيّرة صاروخاً على شخص كان يهم بالترجل من سيارته في الرقّة السورية، لتنهي قبيل منتصف الليل بقليل حياة أحد أكثر القتلة شهرة وإثارة للنفور والكراهية في العالم.

مَنْ هو ذلك الشخص، كيف أصبح رمزاً للشر المُطلق، وما الذي أوصله إلى نهاية كهذه؟ هذه هي الأسئلة التي حاول الصحافي البريطاني روبرت فيركايك العثور على إجاباتها في كتاب صدر بالإنكليزية في ربيع العام الماضي بعنوان "الجهادي جون: صناعة إرهابي".

وإذا كان في سيرة الشخص، الذي عُرف في وسائل الإعلام الغربية باسم "الجهادي جون"، منذ أغسطس (آب) 2014، ما يكفي لإثارة الاهتمام، إلا أن عوامل إضافية حرّضت فيركايك على محاولة تقصي سيرته ومسيرته، وعلى رأسها أنه التقى الشخص المعني، في لندن، في العام 2010، وتبادل معه رسائل بالبريد الإلكتروني.

عمل فيركايك، آنذاك، صحافياً في جريدة الإندنبندنت المرموقة، والتقى المذكور في سياق تحقيقات يريد نشرها في الجريدة عن ملاحقة أجهزة الأمن البريطانية لمواطنين مسلمين بدعوى انتمائهم لشبكات إرهابية، واعتناقهم لأفكار متطرفة. ولم يفكر للحظة واحدة أن الشخص الذي عرفه آنذاك باسم محمد إموازي سيصبح الإرهابي الداعشي الذي عرفه العالم باسم "الجهادي جون" بعدما تناقلت منصات إعلامية مختلفة مشهد ذبحه للأمريكي جيمس فولي، في أغسطس (آب) 2014.

هاجر إموازي طفلاً مع أبويه من الكويت إلى بريطانيا بعد الغزو العراقي، عاش في أحياء لندن الفقيرة، تعلّم في المدارس الحكومية، التي تضم أعداداً كبيرة من أبناء المهاجرين، ونشأ في بيئة انقطعت صلتها بالثقافة الأصلية للأبوين، ولم تتمكن من الاندماج في، أو التماهي مع، ثقافة البلد المُضيف، وما رسب فيها من الثقافتين مجرّد قشور خارجية تغطي كينونة خاوية تشكو غياب المعنى. وما زاد من خواء وغياب المعنى تعددية الأصول التي جاء منها المهاجرون.

فشبكة الأصدقاء في المدرسة والحي، مثلاً، التي نشأ فيها إموازي كانت تضم عرباً من الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، وآخرين من شبه القارّة الهندية، ولم يكن الجامع بين هؤلاء سوى إحساس غامض بهوية إسلامية مشوّشة.

والمُلاحظ، في هذا الشأن، أن إموازي، الذي تعاطى الكحول، وارتكب مع أصدقاء المدرسة والحي سرقات وجنايات صغيرة، أوقعتهم في مشاكل مع الشرطة، وجّه أنظاره في بداية التأسلم إلى الصومال، وإلى حركة الشباب الإرهابية، التي أراد الالتحاق بها بتحريض من أصدقاء صوماليين، وآخرين من مصر ولبنان، وكانت المرأة الأولى التي أراد الزواج منها صومالية، أيضاً.

تبدو سيرة إموازي، الذي يبدو من لغته في رسائل البريد الإلكتروني إلى فيركايك، أنه كان يرتكب أخطاء في الكتابة باللغة الإنكليزية، ولا نعرف ما إذا كان يجيد العربية، التي يتكلمها، قراءة وكتابة، وسيلة إيضاح مثالية للجهل المقدس بتعبير الفرنسي أوليفيه روا، الذي طرح في كتاب يحمل العنوان نفسه فرضية أن معرفة أغلب "الجهاديين" بالإسلام محدودة إلى حد بعيد، وأن "الإيمان" مقطوع الصلة بالبيئة الثقافية للدين، هو مصدرهم الوحيد لإعادة إنتاج هوياتهم في عالم يعيشون على هامشه.

سيعثر مؤرخو ظاهرة الدواعش الإرهابية على معلومات مفيدة، بالتأكيد، من خلال عرض فيركايك لآخر عامين في حياة إموازي، بعد الخروج من بريطانيا، قضاهما متنقلاً بين جماعات إرهابية مختلفة قبل الالتحاق بالدواعش، والعيش ما بين الموصل العراقية والرقّة السورية. ويبدو أنه عمل في فريق ملاحقة واختطاف المواطنين الأجانب، والتفاوض مع حكوماتهم على إطلاق سراحهم مقابل الفدية، كما عمل حارساً للرهائن في سجون الدواعش، إضافة إلى وظيفته كجلاّد يجز أعناق ضحاياه أمام عدسات الكاميرا.

ومع ذلك، ثمة علامة سؤال كبيرة بشأن نجاح إموازي في الخروج من بريطانيا في العام 2013، رغم منعه من السفر، وملاحقته من جانب أجهزة الأمن. لا ينفي فيركايك احتمال أن يكون البعض في تلك الأجهزة قد غض النظر، وتساهل في موضوع خروج المتطرفين من بريطانيا للالتحاق بالمعارضة المسلحة للأسد بعد اندلاع الثورة السورية. فقد حدث أمر مشابه بعد الثورة على نظام القذافي، حين غضّت السلطات نفسها النظر عن سفر مواطنين ليبيين كانوا على قوائم المشبوهين، لتمكينهم من القتال ضد القذافي.

لا يعرف أحد ما إذا كان قد حدث أمر كهذا. ولكن الحقيقة التي يصعب إنكارها أن لندن تحوّلت منذ زمن "الجهاد الأفغاني" إلى عاصمة لتنظيمات وأيديولوجيا الإسلام السياسي، وأن ذلك لم يكن ليحدث دون غض للنظر، من نوع ما، من جانب السلطات. وفي كل الأحوال سواء وقع غض النظر، في بريطانيا وكل مكان آخر، عن حسن أو سوء نيّة، فإن العالم بعد موجة الإرهاب التي أطلقها "الجهل المقدس" لم يعد يحتمل غض النظر، مهما تنوّعت وتعددت الأسباب. ولعل في كتاب فيركايك عن قاتل عرفة العالم باسم "الجهادي جون" ما يمثل شهادة إضافية في هذا الشأن.