وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر.(أرشيف)
وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر.(أرشيف)
الأربعاء 22 نوفمبر 2017 / 20:05

صانع الجبيرة

جوهر إنشاء نظام عالمي، هو أن أي بلد بمفرده، بما في ذلك الصين أو الولايات المتحدة، ليس في وضع يُمكِّنه وحده، بدور قيادة العالَم، وهو دور شبيه بذلك الدور الذي تولته الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة مباشرة

يرى هنري كيسنجر، الأب الروحي لاستراتيجيات السيادة الأمريكية، أن كوريا الشمالية ينطبق عليها كلام بسمارك الذي أطلقه في القرن التاسع عشر: نعيش في زمن عجيب حيث القوي ضعيف جراء تردده الوسواسي، وحيث الضعيف قوي بسبب جرأته المتهورة. لكن هذا وسواس قهري مُضاعَف أصاب هنري كيسنجر كما أصاب معظم الأمريكيين. كيف تكون القوة الأولى في العالَم مترددة؟ الإجابة التي يكرهها هنري كيسنجر، هي أن هناك قوةً مقابلة ليستْ بالضعف الكافي كي تُضْرَب من قِبَل الولايات المتحدة دون تردد مثل فيتنام أو كمبوديا. وبحسب إدوارد سعيد في محاضرة بعنوان "القضية الفلسطينية والمجتمع الأمريكي" 1979، ألقتْ الولايات المتحدة في ستة أشهر فقط، وفي أواسط السبعينيات، 539 ألف طن من القنابل على دولة كمبوديا الصغيرة، وألقتْ أيضاً على فيتنام، وفي تسعة أعوام، 4 ملايين طن من القنابل. يُتابع الأب الروحي بمرارة، في كتابه (النظام العالمي الجديد) "تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ": تخضع كوريا الشمالية لحكم لا علاقة له بمبدأ الشرعية المقبول، ويتمثل إنجازها الرئيسي في بناء بضع أدوات نووية، ليستْ متوفرة على أي قدرة عسكرية تمكنها من الدخول في حرب مع الولايات المتحدة، غير أن تأثير وجود تلك الأسلحة، يفوق نفعها العسكري الفعلي كثيراً. إنها تحفز اليابان وكوريا الجنوبية على اجتراح قوة نووية عسكرية. إنها تشجع بيونغ يانغ على المخاطرة غير المتناسبة مع قدرتها، بما يُساعد على نشوب حرب أخرى في شبه الجزيرة الكورية. كأنَّ هنري كيسنجر يلوم أمريكا على صمتها أمام كوريا الشمالية، لكنه يلومها أكثر على الاحتمال القائم، وهو اجتراح الحليفين، كوريا الجنوبية واليابان، لقوة عسكرية، تُضعف من الوصاية والسيادة الأمريكية.

تحاول الولايات المتحدة تصديق أمنيتها، وهي أن أمريكا والصين مُتفقتان إزاء مُطالبة كوريا الشمالية بالتخلي نهائياً عن برنامجها النووي، لا تقليصه.
 وبين الحين والآخر، وبسبب القلق، تتهم الولايات المتحدة التنين الصيني، بأنه لا يبذل الجهد المطلوب، لردع حليفته كوريا الشمالية. أما بالنسبة لنظام بيونغ يانغ، فإن التخلي عن برنامجه النووي، يعني انهياره. يدور هنري كيسنجر في دائرة مُغلقة، ويؤكد بسذاجة مُضطراً لها، أن طلب الولايات المتحدة والصين، بتخلي كوريا الشمالية عن سلاحها النووي، كان على الملأ، وكان صريحاً، ثم يشكك مرة ثانية، في نوايا الصين، ويقول: يتعين على الولايات والمتحدة والصين إذا كانتا راغبتين في تحقيق أهدافهما، بذل المزيد من الجهد والتنسيق بينهما. ما مدى إمكانية الدمج بين هواجس وأهداف البلدين حول كوريا الشمالية؟ هل تستطيع الصين والولايات المتحدة أن تعملا معاً؟ في الماضي كانت حاجة الولايات المتحدة، للأب الروحي العجوز، البافاري، اليهودي الأصل، هنري كيسنجر، تتلخص في رسم استراتيجيات الحروب، وليس لبناء مماحكات جدلية، لا تنفع كثيراً السياسات البراغماتية الأمريكية الواضحة. يضع هنري كيسنجر يده على بطحة الرأس، لينفي وجودها، لكنه بوضع يده هناك، على قمة الرأس، فهو يؤكد وجودها. يقول: قد يرى كثيرون أن الولايات المتحدة كقوة عظمى، تقهقرتْ، غير أن من بين القيادة الصينية هناك أيضاً مَنْ يعترف صراحةً، بأن الولايات المتحدة ستحتفظ بقدر من القوة في المستقبل المنظور. جَبْر الخواطر الأمريكية. هنري كيسنجر المجبراتي، صانع الجبيرة، يُجبِّر عِظَام القوة الأمريكية. نصف شيكارة جبس ماركة "جوراسيك بارك"، لتر ماء شديد الصفاء من نهر المسيسيبي، عشر بكرات من شاش طبي ممتاز. يقول المجبراتي للمصابة: بسيطة، حصل خير، قدَّر ولطف. ستة شهور فقط في الجبس، وبعدها تقومي زي الفل، وترمحي زي الرهوان، زي الحصان، وتلحقي الصين، وتسبقيها كمان.

جوهر إنشاء نظام عالمي، هو أن أي بلد بمفرده، بما في ذلك الصين أو الولايات المتحدة، ليس في وضع يُمكِّنه وحده، بدور قيادة العالَم، وهو دور شبيه بذلك الدور الذي تولته الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة مباشرة، حين كانت مهيمنة على كافة الأصعدة. عزاء هنري كيسنجر أن الصين لن تنفرد بدور أحادي مثلما فعلتْ الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة. بعبارة أخرى، يطلب هنري كيسنجر من الصين أن تتعقل إذا ما بدا لها، أنها تستطيع الاختيار بين الانفراد في المستقبل، بقيادة العالَم، ولو لفترة وجيزة، وبين اقتسام القيادة مع الولايات المتحدة. حتمية المشاركة بين الصين والولايات المتحدة في توازن القوة، تقع في كلمات هنري كيسنجر أيضاً تحت مظلة التهديد أولاً، وثانياً لكسب الوقت، لربما تستطيع الولايات المتحدة، أثناء تخدير التنين الصيني، تكرار سيناريو الاتحاد السوفييتي سابقاً.