مدينة سيئون اليمنية.(أرشيف)
مدينة سيئون اليمنية.(أرشيف)
الخميس 23 نوفمبر 2017 / 20:10

تلك الرحلة الغريبة الى اليمن

كنت استعرت اسماً في اليمن، بالضبط استعرت اسم فتى، كان يسوق قطيعاً منهكاً من الأغنام، كان يعبر صباحاً قرب المعسكر، يقف غير بعيد ويراقب المقاتلين الذين وصلوا هذه الصحراء وأصبحوا جزءاً منها قبل أن يذهب، لا أعرف إلى أين، بقطيعه تتبعه ثلاثة كلاب هزيلة

كنا قد وصلنا إلى المعسكر الذي أعد لكتيبتنا في صحراء "سيئون" في "حضرموت"، المحافظة الخامسة من اليمن الجنوبي، الكتيبة التي غادرت ميناء بيروت صبيحة 23 أغسطس (آب) على سفينة يونانية سياحية بحراسة قطع بحرية أميركية من الأسطول السادس، البارجة التي كانت تنتظرنا في عرض البحر وسترافقنا في رحلة غريبة عبر البحر المتوسط ثم قناة السويس نحو البحر الأحمر الى مضيق باب المندب ثم المحيط الهندي، كانت ترسل طائرة "هيلوكبتر" داكنة لتحلق فوقنا كغراب متوعد.

صعدنا الى السفينة الراحل غالب هلسا، الشاعر العراقي شاكر لعيبي، وشاعر عراقي آخر اكتفى بلقب "غيلان" وأنا، كنا ضمن أقل قليلاً من ألف مقاتل معظمهم من فرقة فتح الشهيرة ال "17"، وسرايا مقاتلة من بقية فصائل منظمة التحرير، الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية على وجه الخصوص، غالب وأنا والمصور "غيفارا"، سأعرف فيما بعد أنه من مدينة "مادبا" شرقي نهر الأردن وأن اسمه يوسف، كنا ضمن قائمة الجبهة الديمقراطية وكنت ما زلت ضمن منظمة الشبيبة، وأحمل ما يشبه توصية حزبية برعاية "غالب"، الذي كانت تربطني به صداقة تعززت خلال شهور الحصار الثلاثة.

قبل أن تتحرك السفينة اليونانية بدأ اطلاق نار كثيف في منطقة الميناء وأحياء بيروت الشرقية، إطلاق من بنادق خفيفة تخلله طلقات رشاشات ثقيلة، من حاجز السفينة كان يمكن مشاهدة ارتباك القوات المتعددة الجنسيات التي انتشرت في الميناء وتمييز جنسياتها من لون القبعات.

سنعرف بعد قليل أنهم في بيروت الشرقية يحتفلون بانتخاب "بشير الجميل" رئيساً للجمهورية اللبنانية. كنا في طريقنا الى عدن.

في عدن وبعد استراحة لأيام صدر الأمر بالتحرك نحو المعسكر الذي أقيم للكتيبة في صحراء سيئون. بقي الجميع في عدن، بما فيهم غالب، والتحقت بالكتيبة.

صعدت الحافلات "الطريق الصيني"، لست متأكداً من اسم الطريق، كان لدي معلومة أن الصينيين هم من شق هذه الطريق التي تقطع البلاد بدأب.

أفكر الآن بتلك الرحلة العجيبة وبتلك الطريق العنيدة ورفاق الرحلة ومصائرهم، بلطف الناس ومحبتهم الغريبة، بصناديق العنب والخبز التي حملها اليمنيون الى السفينة عندما توقفنا في ميناء الحديدة، وأرخبيل الجزر الذي يحيط بالمدينة والميناء الذي حدّثه "السوفييت" مطلع ستينيات القرن الماضي.

بعد أسابيع سيصل "غالب هلسه" الى المعسكر في سيارة "دفع رباعي" وهو يحمل تصريحاً من رئاسة الدولة باصطحابي في جولة في المحافظات الخمس التي تتكون منها جمهورية اليمن الجنوبي في ذلك الحين، كانت تلك عملية انقاذ نموذجية للفتى الذي كنت، وسنصعد معاً، غالب بفضوله الغريب أدراج مآذن وبيوت في "شبام" و"تريم"، وسنقلب المخطوطات النادرة في مكتبات متهالكة، وسيتربع غالب على الأرضية المغبرة وهو يضع ملاحظات ويدقق في حواشي المخطوطات الآيلة للتفكك بفعل الطقس والزمن والاهمال والافتقار لوسائل الحفظ.

سنجلس في بهو قصر "الكثيري".

سنصل "المكلا" عاصمة حضرموت في الليل، وسندخل "سوق النساء"، رغم اعتراضات المرافق الرسمي الذي رفض الدخول معنا واكتفى بانتظارنا على مدخل السوق.

كنت استعرت اسماً في اليمن، بالضبط استعرت اسم فتى، كان يسوق قطيعاً منهكاً من الأغنام، كان يعبر صباحاً قرب المعسكر، يقف غير بعيد ويراقب المقاتلين الذين وصلوا هذه الصحراء وأصبحوا جزءاً منها قبل أن يذهب، لا أعرف إلى أين، بقطيعه تتبعه ثلاثة كلاب هزيلة. سألته أين يجد مرعى لأغنامه فأشار نحو تلال تبدو مثل أشباح منحنية في ذلك السديم. وبدا أن لا نهاية لأسئلته. كان يريد أن يتأكد من وجود بقية لهذا الكون خارج "سيئون".

 عندما رافقته نحو تلك التلال كان يبدو فخوراً، كأنه هو الذي بعث تلك الخضرة البسيطة أو أنه بعث ذلك النبع الذي يسقيها.
أخذت اسمه وتجولت فيه سنوات طويلة فيما بعد، أخذته معي الى بقية العالم.
أفكر بذلك الفتى أيضاً.
بالجغرافية الهائلة التي تعيد تكوين نفسها الآن، والتاريخ الذي تراكم فوقها.