من احتفالات عيد الشعب لشعب الإنكا.(أرشيف)
من احتفالات عيد الشعب لشعب الإنكا.(أرشيف)
الخميس 23 نوفمبر 2017 / 20:03

سرديات فتح الإنكا.. التاريخ الإشكالي وأساطيره التأسيسية!

في هذا الكتاب يسائل المؤلف أهم حقبة في تاريخ شعب البيرو وهي حقبة الغزو الإسباني لحضارة كانت منعزلة عن البشرية لآلاف السنين هي حضارة الإنكا

لا تخلو الثقافات والحضارات الإنسانية من وجود تلك الأساطير التأسيسية التي شكّلت بعمق كبير متخيلات معينة لديها قد تصل إلى درجة المعتقد والمقدس الذي يجب لايجب المساس به أو انتهاكه. والأساطير التأسيسية قد تشكِّل هويات سردية لجماعات بشرية تجد في السرد جذورها كما يقول المنظر ما بعد الكولونيالي هومي بابا. إذاً كلّ جماعة بشرية تنتج متخيلها الثقافي الخاص بها وتاريخها وسيرتها الذاتية السردية التي تفترق عن سرد الجماعات الأخرى لتاريخها. والتاريخ إشكاليّ جدًا ومتغير وبالتالي يصعب الحديث عن تاريخ واحد مجمع عليه لأيّة جماعات بشرية. فماذا عن هذا التاريخ الإشكاليّ عندما يرتبط بحقبة تاريخية فارقة لدى تلك الجماعة؛ حقبة تاريخية متصلة بكينونتها ووجودها أو إلغاؤه ومحوه وطمسه تمامًا!

كتاب "فتح الإنكا" لمؤلفه جون هيمنغ من الكتب الجاذبة العميقة والرصينة في طرحها التي تستحق الوقوف عندها بتأنٍ وتمهل للتعرف إلى أطروحتها الفكرية. في هذا الكتاب يسائل المؤلف أهم حقبة في تاريخ شعب البيرو وهي حقبة الغزو الإسباني لحضارة كانت منعزلة عن البشرية لآلاف السنين هي حضارة الإنكا. ويسائل المؤلف حقيقة تلك الأساطير التأسيسية الكبرى التي أحيطت بالغزو الإسباني للإنكا من أساطير استسلام شعب البيرو ومن الحديث عن الفظائع الكبرى التي ارتكبها الإسبان بشأن هذا الشعب. ولأن المؤلف لا يريد الاعتماد فقط على الوثائق والأرشيف الإسباني بخصوص هذه المسألة فقد قدّم لنا في كتابه مصادر كتابية من الطرف الآخر؛ أي من طرف الهنود الحمر سكان البيرو وهي ثلاثة مصادر :" تقرير أملاه تيتو كوسي يابانيكاي لمصلحة ملك إسبانيا، وهو لايمثل موجزًا تاريخيًا بديعًا للفتح من خلال عيون الإنكا، بل يعد المذكرات الشخصية الوحيدة التي كتبها شخص مهم من الجانب الآخر. أمَّا المصدر الثاني فهو كتاب"تاريخ بيرو العام" الذي ألفه القسيس مارتن دي ميروا. والكتاب الثالث هو كتاب" التاريخ الأولي للحكم الرشيد" من تأليف الشخص الهجين النسب فيليبي غومان بوما دي آيلا، وهو كما يقول المؤلف" كتاب غريب وغير مترابط، ويمثل مزيجًا ممتعًا من الرسوم والنص المكتوب بالإسبانية والكويتشا، وعلى الرغم من أنَّ المؤلف كان ساذجًا ومخبولاً، فإنَّ رسوماته للحياة في الإنكا في القرن السادس عشر ووصفها لها أصلية".

هذا الكتاب "فتح الإنكا" أنصح بقراءته بالتوازي الزمني مع كتاب "فتح أمريكا ومسألة الآخر " للناقد الأمريكي من أصل بلغاري تزفيتين تودوروف. لقد وقف تودوروف عند استنطاق النصوص المكتوبة للكشف عن النسق المخبوء عند القاهرين والمقهورين ولتشريح كيفية الهيمنة من خلال استملاك اللغة. إنَّ أسباب تفوق إسبانيا في الهيمنة على العالم الجديد آنذاك لم تكن بسبب تفوق عسكري ولا عددي وإنَّما كان السبب أنَّ بعض حضارات العالم الجديد ومنها "الآزتيك" كانت منكفئة على نفسها بعيدًا عن التواصل مع الآخر؛ مكتفية بذاتها في حين كان الإسبان يهدفون إلى التواصل مع الآخر حتى لو كان هذا التواصل تواصلاً كولونياليًا عنيفًا يهدف إلى طمس هذا الآخر واستلاب هويته تمامًا كما فعلوا مع الهنود الحمر. لاينكر تودوروف التكرار في التاريخ ولكنه يرى إمكانية تجاوزه من خلال آليات المعرفة والإرادة، ومن خلال "التاريخ الأمثولة"، ولهذا يستنطق في هذا الكتاب المسكوت عنه كي لا يتكرر. لقد أورد تودوروف في كتابه أنموذجًا دالاً على أمثولته العميقة عندما أورد حادثة امرأة من المايا قدَّمها الإسبان فريسة للكلاب لأنها رفضت أن تعطي جسدها لرجل آخر غير زوجها، والحل عند تودوروف يكمن ليس في تقديم امرأة إسبانية كي تكون فريسة للكلاب، الحل عنده ليس من خلال الانتقام وإنَّما من خلال الحوار الحضاري الخلاَّق بين الشعوب لتقليص قضية الفوارق الكبرى التي تسبب الكراهيات التاريخية العميقة في عالم أصبح يئن من حروب هي إرث لتراكمات تاريخية وحساسيات كبرى منذ قرون.

اشتغل تودوروف في كتابه اشتغالاً عميقًا على النصوص فهو يرى أن كريستوفر كولومبوس في مذكراته يكشف عن قدر كبير من التأويل فقد استطاع السيطرة على شعوب الهنود الحمر بفعل فهمه لثقافتهم المهيمنة عليهم. فعلى سبيل المثال عندما حوصرت سفينته بعد تحطمها في جامايكا لمدة سبعة أشهر من قبل ما لايقل عن مليون هندي أحمر استطاع بعد فترة من الزمن السيطرة عليهم عندما هدَّدهم بأنه سيختطف القمر منهم. لقد كان كولومبوس ضليعًا بعلم الأنواء البحرية والتي ورثها عن عرب الأندلس ولذلك استملك لغة الآخر بما فيها ثقافته وهويته. لقد كانت المشكلة بالنسبة لهنود الأزتيك على سبيل المثال، أنَّ حضارتهم كانت تنبؤية وتأويلية خالصة فتقويمهم يتألف من ثلاثةَ عشرَ شهرًا تتألف مدة كل منها من عشرين يومًا ولكل يوم من هذه الأيام طابعه الخاص من الحسن الطالع أو السيء. ولذلك كان "كتاب المصائر " يحدد مستقبل المولود منذ ولادته ومستقبل حضارة الأزتيك بأكملها، ولذلك عندما أتى الأسبان بقيادة كولومبوس فرَّ ملك الأزتيك موكتيزوما كي لايراه الإسبان ، لأن في عرف الأزتيك الملك يجب ألا يراه أحد، وفي اعتقادات الأزتيك أن كائنات ستهبط عليهم من السماء وكانت تلك الكائنات هم الغزاة الإسبان! يقول تودوروف في كتابه" إنني أكتب هذا الكتاب سعيًا إلى التأكد إلى حد ما من ألا ننسى هذه القصة، وألف قصة مشابهة وردًا على السؤال: كيف يجب التعامل مع الآخر؟".

كتاب "فتح الإنكا" من ترجمة الدكتور عدنان خالد ومن إصدارات هيئة أبوظبي للثقافة، وأحييه بعمق لترجمة هذا الكتاب الاستثنائي الذي يجعلك تعيد تشغيل فكرك النقدي في القراءة والتحليل بعيدًا عن المسلمات الجاهزة، وهو ما نحتاج إليه بالفعل في التاريخ الذي يتسم بطبيعيتين الإشكالية والتغير!