رسم تعبيري.(أرشيف)
رسم تعبيري.(أرشيف)
الثلاثاء 28 نوفمبر 2017 / 19:40

العربيّة الحديثة

التزم النثر العربي في أوقات الإزدهار لغة غير قرآنيّة، والأرجح أنّ اقتفاء النصّ القرآني تقليد ليس إلاّ، مثله مثل السير على غرار المعلّقات الشعريّة، ومعلّقة امرئ القيس خصوصاً

اللغة العربيّة كما لا يخفى على أحد، لغة مقدّسة. إنّها لغة الله، وهي بحدّ ذاتها معجزة. إنّها بذلك ولذلك مثال بلاغي وأدبيّ، وفي كونها هكذا ما يجعلها قبلة الأدباء والشعراء، قبلة ونموذجاً أعلى يستحسن استلهامه واقتفاؤه. هذا بالتأكيد مسهّل للعمل الأدبيّ وموطّد له. لكنّه في الوقت ذاته ذو نهاية تراجيديّة، إذ لا يستطيع الكاتب مهما أوتي من البراعة أن يلحق بالنموذج المثاليّ أو يتعدّاه. لنقل إنّ إقتفاء القرآن تقليد أدبيّ وليس واجباً دينيّاً، إذ ليس هناك من نصّ دينيّ يفرض تقليد القرآن. وفيما كتب إبن المقفّع والجاحظ بلغة لا تترسّم اللّغة القرآنيّة وتبدو إزاءها ما يبدو عليه النثر إزاء الشعر،

 التزم النثر العربي في أوقات الإزدهار لغة غير قرآنيّة، والأرجح أنّ اقتفاء النصّ القرآني تقليد ليس إلاّ، مثله مثل السير على غرار المعلّقات الشعريّة، ومعلّقة امرئ القيس خصوصاً. بيد أنّ للقرآن عربيّته الّتي وحّدت اللغة، هذه اللّغة بالفصحى والفصحى بسببها لن تنتهي إلى لهجات محليّة، ولن تتفرّع كما هي حال اللاتينيّة إلى لغات كثيرة. ستبقى الفصحى القرآنيّة عمود الكتابة العربيّة، ستبقى الفصحى لغة الأدب، لكنّ اللغة إن لم تتحوّل او تتفرّع، تتطوّر وتتغيّر وتتّخذ مسارات مختلفة، أكثر راهنيّة ومعاصرة وأقرب إلى لغة كلّ يوم ولغة الجسد ولغة العصب والإحساس والإرتجال.

هذا ما يجعل العربيّة أمام التباس كبير، بل وأمام مضيق تاريخيّ ومعادلة صعبة وموازنة شاقّة. عليها أن تبقى فصحى أي لغة كتابة لا شفة، لغة أدب لا حياة ولغة صناعة لا ارتجال، ولغة تأمّل لا جسد ولا إحساس ولا عصب. ولكن علينا مع ذلك، أن نخرج من هذه اللغة ما لا قبل له في تاريخها وفي مبدأها ووجهتها. علينا مع بقائها فصحى ومكتوبة، أن نستخرج منها ما يوازي اللغة الشفويّة، والموازاة هي عمود هذه المعادلة الصعبة. موازاة الإرتجال، موازاة الجسد وموازاة الإحساس والعصب، موازاة اليوميّ و اللحظويّ والراهن والمعاصر.علينا أن ننتج لهذه اللغة بلاغتها المعاصرة التي تقوم بعبء كلّ هذه الموازاة،على تنوّعها واختلافها،على المستوى الفكريّ والثقافيّ والبسيكولوجيّ والإيقاعيّ والفنّي. ليست الموازاة هي الشيء نفسه بل إنتاجه بطرق أخرى وإنتاج ماهو نظير له وما يحاكيه ويعيده من قريب أو بعيد. تلك هي المعادلة التي ينبغي أن تفعل وتتفاعل وتتقدّم وتُصاغ وتُعاد وتُختبر كلّ يوم.

هل بدأ ذلك وهل بوشر به؟ أم أنّه لا يزال أفقاً بعيداً لا يُبلغ؟ وهل باستطاعة ذلك أن يبقى جامداً، أخرس بينما الحياة عندنا ومن حولنا تسير وتتململ وتتسارع وتتغيّر؟ هل في وسعنا أن نبقى على اللغة ذاتها الّتي توارثناها وأن نتغيّر نحن من دون أن تتغيّر هي؟ لا. اللغة في مخاض هذه المعادلة الصعبة وشبه المستحيلة تتغيّر وتنشئ هكذا خاصيّتها وتاريخها، وقد تكون الكلمة الأصّح إذا اجتمعت الظروف والمقوّمات والأشخاص"عبقريّتها". لقد كان الباب الأوّل هو الترجمة والإتصال عن طريقها أو مباشرة باللغات الأجنبيّة. اللغات الأجنبيّة هي أيضا لغات ماثلة للزمن والعصر أكثر من لغتنا، ومن الممكن القول إنّ في استدخالها ما لعب بلغتنا إلى حدّ العبث وحدّ تحوير وربّما تحويل القواعد، وأنّ في هذا الإستدخال ما يتنافى في جزء منه، مع طبيعة لغتنا نفسها. كانت الصحافة هي منصّة هذا التحوّل، ومن الممكن القول إنّ أدبنا الحديث كلّه قام عليها. قد يزعج هذا الكثيرين من الأمناء على اللغة وقد يجد هؤلاء في هذه اللغة لغة مترجمة لا أصالة فيها ولاخاصيّة. وهي هكذا بالنسبة لهم بلا قياس وبلا قوام. هي هكذا فوضى وركاكة واصطناع. إنّها بحت ترجمة لا أقلّ ولا أكثر. قد يصحّ ذلك لكنّ الأمور لا ترجع في تفاعلها إلى قواعد جاهزة ولا إلى تصاميم مسبقة. إنّها تحدث بقوّة الحياة الّتي تكون أحياناً عارمة بحيث تشبع الفوضى، بعبقريّة التفاعل الّتي تنتج وقائع جديدة وتبتكر من الحطام ومن العبث ومن الفوضى ومن الخيانة والتنكّر للأصل.