الشتم في زمن وسائل التواصل الاجتماعي.(أرشيف)
الشتم في زمن وسائل التواصل الاجتماعي.(أرشيف)
الجمعة 1 ديسمبر 2017 / 20:09

زمن الانحطاط وخطاب الشتم!!

في الزمن الإلكتروني، زمن "اليوتيوب" و " الانستغرام " و"الواتساب"، الشتم رخيص "شوارعي"، مفرداته مجرد ألفاظ نابية يتباهى مستخدموها في اختيار أكثرها قذارة وخدشاً للقيم والأخلاق المجتمعية

الشتم واستخدام الألفاظ النابية و"المنحطة" هما من الأسلحة القديمة قدم الإنسانية التي يستخدمها الإنسان ضد عدوه بهدف هدم معنوياته أو الحط من قدره، أي بمعنى آخر هي إحدى وسائل الحرب النفسية البدائية أو إحدى وسائل اغتيال الشخصية. وعلى مر التاريخ كان الشتم نتاجاً مباشراً للخلافات بأنواعها من دينية إلى سياسية إلى اقتصادية أو فلسفية أو حتى عشائرية، وعلى مر التاريخ لم يكن لهذا السلاح البدائي أي دور حاسم في تلك النزاعات والخلافات بل اقتصر دوره على ما يمكن تسميته بتفريغ شحنات نفسية سلبية من الشاتم ضد المشتوم.

وعلى مر الزمن كان للشتم أدواته التي تنقله من الشاتم إلى المشتوم، والشعر كان أول هذه الأدوات ومازال أكثرها تأثيراً في النفس وأكثرها خلوداً ورسوخاً في الوجدان، ولا أظن أن أحداً منا يغيب عن باله شتم المتنبي لكافور الإخشيدي في بيت الشعر الشهير:

صار الخصـيُّ إمام الآبقيـن بـها
فالـحر مستعبـد والعبـد معبـود
نامت نواطيـر مصـر عن ثعالبهـا
فقد بشمـن وما تفنـى العناقيـد
العبـد ليس لـحر صالـح بـأخ
لو أنه فـي ثيـاب الـحر مولـود
لا تشتـر العبـد إلا والعصا معـه
أن العبيـد لأنـجاس مناكيــد

كما تخلد بيت الشعر الشهير لجرير رداً على غريمه الفرزدق الذي يستهزئ فيه من تهديد هذا الأخير لأحد الفرسان ويدعى "مربع" حيث رد عليه بالقول:

زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً… أبشر بطول سلامة يا مربع
ورأيتُ نبلَك يا فرزدق قَصَّرت… ورأيتُ قوسَك ليس فيها منزع

هكذا كان "الشتم" في الزمن الذهبي للعرب وللغة العربية، مغلف بالصور والبلاغة والحكمة والأدب الجم رغم "قساوة التحقير"، أما في الزمن الإلكتروني، زمن "اليوتيوب" و "الإستغرام" و"الواتساب"، فهو شتم رخيص "شوارعي"، مفرداته مجرد ألفاظ نابية يتباهى مستخدموها في اختيار أكثرها قذارة وخدشاً للقيم والأخلاق المجتمعية، وخلال الأسابيع الماضية انتشر عدد من الفيديوهات التي مست قيمنا الدينية ومسلماتنا العقائدية وانحازت لإسرائيل بطريقة مهينة وبتزلف "غبي ومحزن" يثير الشفقة على أصحاب هذه الفيديوهات، كما يثير الشفقة على البعض من أمتنا العربية الذي بات يؤمن بأن إسرائيل هي "الخلاص"، وهي (الصديق الصدوق)، وأن فلسطين هي أرض إسرائيل التاريخية وأن الشعب الفلسطيني ليس له ذكر في التاريخ ولم يكن موجوداً قبل عام 1948، وان هذا الشعب وُجد فجأة على سطح الأرض وبات بحاجة لشهادة ميلاد وتاريخ.

ما جرى تداوله من (شتم وشتم مضاد) بهذا الشأن يدلل على مدى الانحطاط القيمي والأخلاقي والجهل الذي يعيشه جيل الشباب العربي الحالي الذي بات يثأر من عروبته بالنوم في حضن إسرائيل إما من باب المناكفة أو من باب جلد الذات والانتقام منها.

إن الانتقال من خطاب الكراهية القومية أو الدينية إلى خطاب شتم الشعوب يعد نقطة تحول قيمية وأخلاقية تدلل على انهيار كامل لمنظومة القيم والمبادئ التي تربينا عليها، وتؤكد أن عمليات "تزييف الوعي" ، و"التلاعب" بالعقول وصلت إلى أقصى مداها، فنحن بهذه الثقافة وبهذا الخطاب الذي نسف تاريخنا السياسي والديني والحضاري، أصبحنا "عراة تماماً" أمام أنفسنا والعالم، وحصدت إسرائيل والصهيونية العالمية عبر "تفاهات" الجهلة أكبر رصيد لدعايتها ضد الحق الفلسطيني.

في التفسير السيكولوجي لثقافة الشتم يرى عالم النفس الأمريكي تيموثي جاي مؤلف (كتاب الشتم في أمريكا) أن هناك فائدة من الشتم، وإلا لاختفت الظاهرة وصارت غير مألوفة عند الناس. ويضيف جاي أن الشتم يلعب دوراً مهماً في تخفيف الضغوط النفسية ونوبات الغضب والقلق، وبعكسه سيلجأ المرء إلى الاعتداء واستعمال العنف والإيذاء الجسدي، والشتم يؤشر إلى وجود اضطراب نفسي لدى الشاتم ووفق البحوث المختصة بسمات الشخصية، فإن الذين لا يلجؤون إلى إطلاق الشتائم غالباً ما يتمتعون بتقدير الذات بنسبة عالية ولديهم قوة السيطرة على المشاعر والتعبير عنها بلغة مهذبة وواعية، أما الذين يلجؤون للشتم وتلفيق الأكاذيب واستعداء الناس ونسف البديهيات من معتقدات فكرية وثقافية وسياسية ودينية هم أناس يعانون من أمراض نفسية من أبرزها الشعور بـ"الاغتراب" داخل المجتمع، أو الاحتقار من قبله، مما يدفعهم للبحث عن التميز السلبي من أجل لفت الانتباه أو التحول بهذه الشتائم والآراء الشاذة إلى شخصية مشهورة ومعروفة .

... هنيئاً لإسرائيل بهذه النوعية من الأصدقاء و الحلفاء.