رسم تعبيري.(أرشيف)
رسم تعبيري.(أرشيف)
الجمعة 1 ديسمبر 2017 / 20:08

المتصهينون الجدد

أتفهّم بأنه ما من سبيل للمرء للمحافظة على عقلانيته وهدوئه أمام هذا الانحطاط، ولكني أعتب على من اختار أن يساوم هؤلاء المتصهينين، ويتباحث معهم حول القدر المسموح به من التفرقة

تقول الطرفة غير المضحكة إن إحدى الحكومات الأمريكية الجنوبية تعمد إلى أسلوب مبهر حين تود أن تفجع شعبها بالزيادات الضريبية. 

فهي تقوم أولاً بنثر "دبابيسها" في الأحياء، المقاهي، الجامعات، المكاتب، وعلى كراسي الكوافيرات. يتحدثون بقلق مُصطنع، وتكتم دراماتيكي، عن الزيادات المهولة في الضرائب. ينقلون ما أخبرتهم به "العصفورة"، يتوعدون بأرقام فلكية، يهددون بنسب كارثية. ينشرون الخبر المفجع، يشغلون الشوارع، ويقيمون قيامة مصغّرة من الهلع والخوف.

ثم يأتي الإعلان الرسمي من جانب الحكومة، فإذ بها تتوعد فعلاً بأرقام فلكية، وتهدد صدقاً بنسب كارثية. ولكنها -رغم ارتفاعها- تكون أقل خطورة من تلك الأرقام والنسب التي قضّ بها الدبابيس المضاجع حين كانوا يمارسون ترويجهم الممنهج للشائعات والأقاويل.

وهنا يرتاح أبناء الشعب المغلوبون على أمرهم، ويدفعون وهم راضين الضريبة التي يتصورونها "ليست بذلك السوء".

تذكرت هذه الحيلة الشيطانية الطريفة -إن كانت الكوميديا السوداء تستهويك مثلي- وأنا أشاهد السجالات في وسائل التواصل الاجتماعي بين القابضين على رفضهم للتطبيع كالجمر، وبين المتصهينين الجدد، والذين نافسوا الفقع، أو الكمأة، في هذا الشتاء بظهورهم المفاجئ!

ينخرط المرء منهم في مونولوج بكائي عن أولئك الفلسطينيين الأشرار الذين يعضون الأيادي الخليجية البيضاء، وينهشون لحومنا شتماً وسخرية واحتقاراً واتهاماً، بل وتفسيقاً وتكفيراً أحياناً إذا وافق ذلك ميول بعضهم. إنهم يسرقون معوناتنا، ووظائفنا، وحسن نوايانا، وحتى الهواء الذي نُعتبر أحق به في بلداننا.

والحل يكون وفق ما جادت به القريحة المتصهينة العفنة بأن نضع أيادينا في يد المُحتل الإسرائيلي الذي اغتصب الأرض، وأباد القُرى، وهجّر السكّان، وانتهك الحُرمات، وسطا على كل شيء حتى صار ينازع الفلسطينيين على أحقيتهم بالفلافل والحمص.

أتفهّم بأنه ما من سبيل للمرء للمحافظة على عقلانيته وهدوئه أمام هذا الانحطاط، ولكني أعتب على من اختار أن يساوم هؤلاء المتصهينين، ويتباحث معهم حول القدر المسموح به من التفرقة.

فما أن ينادي أحدهم بالتطبيع مع العدو، حتى نهب لنذكّره بحريته المكفولة في الحقيقة في ازدراء الفلسطيني، والتعنصر والتمييز ضده، وتنميطه، ومبادلته ما يتهمه به من تحيّز وسوء خُلق. نفعل كل ذلك كما لو كنا نغريه بالكراهية عوضاً عن الخيانة التي تغازل مخيلته. نفاوضه في خضم يأسنا واضطرابنا، ونرجوه أن يكتفي بثلاثية البغضاء والتحامل والاحتقار بدلاً من أن يسعى للجمع بينها وبين التطبيع.

قد نتنفس شيئاً من الصعداء تجاه عنصرية العربي ضد أخيه، إذ تبدو كالضريبة المخففة في حرب التطبيع الطاحنة هذه. بل هذه الضريبة ليست غريبة علينا أبداً، ونتوقع أن تظل أوضاعنا "مستورة ولله الحمد" في ظلها.

ولكن كيف نأمن جنب الكراهية –حتى لو كان ذلك اضطراراً وتقيّة-، وهي التي تستطيع أن تندسّ بيننا، لتغذّي بصمت نداءات التصهين والتطبيع المستقبلية، فتخلق منها وحشاً أكبر؟

لا تتنفسوا الصعداء بعد. لا زلنا نختنق.