الشاعر بسام حجار (أرشيف)
الشاعر بسام حجار (أرشيف)
الإثنين 4 ديسمبر 2017 / 20:42

بسام حجّار الشاعر مترجماً

بسّام لم يختر عن عبث الشعر، ولم يتوقف عنده، هو الّذي كان يقرأ الروايات أكثر بكثير ممّا يقرأ الشعر، لم يخطر له أن يكتب رواية

هي المرّة الثانية في أقلّ من سنة أشارك فيها في ندوة موضوعها بسّام حجّار المترجم، في حين أنّ بسّام الّذي كان بالتأكيد من خيرة المترجمين، ليس فقط مترجماً بل كان بالقدر ذاته، وربّما أكثر، شاعراً بين ألمع شعراء جيله وأكثرهم موهبة وأشدّهم تفرّداً، كما كان من المثقّفين النادرين. وبالطبع لم يكن حجّار صاحب ثقافة طنّانة وخطابيّة كما هو شأن معظم مثقّفي وقته الّذين يتلبّسون الحقيقة ويعلّمونها ويصرخون بها. بسّام الّذي يعتزل الجمهور والتظاهرات، كان يملك الحسّ الّذي يستشفّ الأشياء ولا يضيع في معمعتها وهديرها، الشاعر الّذي لا يقيم فاصلا بين الشعر والفكر والحياة اليوميّة والّذي كانت حياته نفسها تلّمساً خفيّاً للحياة وحواراً معها. لم يكن فقط مترجماً والحاجة لمترجم ناجح في ثقافتنا قد تكون أقوى وأفعل من الحاجة لباحث متعجّل وواعظ يدّعي أنّ في يديه زمام الحقيقة. إلاّ أننا لانهوّن من شأن المترجم إذا قلنا إنّ بسّام حجّار لم يكن فقط مترجماً.

لا نهوّن من شأن المترجم ولا الترجمة إذا قلنا إنّ بعضاً من أجمل كتابات بسّام حجّار وبعضاً من أجمل شعره موجود في ترجمته، أو إذا قلنا إنّ مهنة بسّام الحقيقيّة أو الأولى كانت مهنة القارىء وأنّه في معظم كتابته على الأقل، كان يمارس بمتعة واستئناس مهنته هذه الّتي بالتأكيد كانت نور حياته. ترجمته هذه كانت قطعاً مهنة أصيلة، كما كانت قراءة منظومة وشفّافة، كانت عملاً يوميّاً وجزءاً من يوميّاته.

لكنّ بسّام حجّار لم يكن فقط مترجماً. كان قارئاً في ترجماته كما في كتابته. تستحقّ ترجمة بسّام مبحثاً مستقلاً، ليست ترجمة بسّام وحدها بل الترجمة كفعل أساسيّ في ثقافتنا وفي لغتنا اليوم، إذلا ننسى أنّنا نكتب ونتكلّم اليوم بلغة استمدّت كثيراً من الترجمة، وهي أحياناً صياغة عربيّة لكلام أجنبيّ ألفناه حتّى نسينا أصله.

بسّام حجّار الذي افتقدناه منذ سنوات هو شاعر أوّلاً وثانياً.لا يهمّ التراتب هنا. فبسّام لم يختر عن عبث الشعر، ولم يتوقف عنده، هو الّذي كان يقرأ الروايات أكثر بكثير ممّا يقرأ الشعر، لم يخطر له أن يكتب رواية. لم يخطر له أن يكتب نصّا سرديّا هو الّذي ترجم عشرات القصص، بما في ذلك القصص القصيرة. إنّه شاعر من دون أن يتعلّم الشعر من شاعر أو من عمل شعريّ، ومن دون أن يعاني مشقّة الشعر، أو أن يعنى بتجويده وتنغيمه وصقله. مع ذلك كان هذا الشعر شعرا بكلّ معنى الكلمة، بل كان في أحيان مليئاً بالكشوف والإلتماعات. ولكن، أبعد من ذلك، كان هذا الشعر الّذي لا يعتمد كثيراً على الشعر أكثر شعريّة من الشعر نفسه، إذ لا يستمدّ من النصوص بقدر ما يستمدّ من الشاعر المولود معه، من الشاعر الّذي لم يجتذبه من النصوص وحدها، بقدر ما يجده في الصومعة الّتي يقطن فيها أو في الحجرات الّتي ينعزل داخلها. في الأشياء الّتي تحيط به، الأشياء الّتي تتخّذ حضوراً فيتيشيّاً، كما تمتلك كياناً منزليّاً. لنقل إنّ بسّام حجّار لم يكن يجد للشعر حيّزاً مستقلاّ عن نفسه ومشاعره مهما يكن هذا الحيّز، ومهما تكن خصوصيّته، أكانت هذه الخصوصيّة في اللغة وبمعنى نحت اللغة وابتكارها، وبمعنى انغلاقها وسريّتها وبنيانها الخاصّ. ليس هذا مراد بسّام حجّار من الشعر ومن اللغة. لا نقول إنّه لايهتمّ باللغة، لكنّ تصنيع اللغة لم يكن دأبه، اللغة بالنسبة لبسّام حجّار ليست شيئا سوى كلامه الخاصّ، سوى ما يخرج من نفسه، إيقاع هذا الكلام هو بالدرجة الأولى من حرارة الشكوى، من دفء المأوى المنزلي ومن اعتياد أشيائه ومن تكرارها. هناك ايضا العاطفة عاطفة الرجل الوحيد في عزلته وهي ترقّ وتشفّ حتى تغدو تنهيداً أو شبه تنهيد. الشعر هنا ليس منغلقاً، إنّه لايخفي شيئاً. هنا تتحوّل الرقّة إلى ما يشبه الإعتراف، إلى ما يشبه الإنكشاف. الشعر هنا لا يشكو من شيء بقدر ما يشكو من الغموض، إنّه لا يحمل أسراراً، إنّه الوضوح الشقيّ، الوعي الشقيّ، الوضوح الجارح الّذي هو نوع من تعذيب النفس.