الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.(أرشيف)
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.(أرشيف)
الأحد 10 ديسمبر 2017 / 19:54

من أين يمر طريق القدس هذه المرة؟

كانت تركيا الأعلى صوتاً في شجب اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، وكانت المتصدرة لحملة شراء قلوب الشارعين العربي والإسلامي دون أن تكلف نفسها عناء كبح جماح علاقاتها المتمددة مع إسرائيل، وشقيقتها إيران

في رواية "جورج أورويل" الشهيرة (1984)، كانت "جوليا" عضواً نشيطاً في رابطة الشباب ضد الجنس، حيث كانت منخرطة في عمل تطوعي يتمثل في تحضير ثلاث أمسيات في الأسبوع لصالح هذه الرابطة، وكانت تُلصق ملصقاتهم ومنشوراتهم في أرجاء مدينة لندن، بالرغم من كل هذه الأنشطة العلنية، فإن "جوليا" كانت في علاقة حميمة مع "ونستون"، وكانت تعتبر أنشطتها مع رابطة الشباب ضد الجنس مجرد تمويه لحمايتها من كشف الجزء المخفي من حياتها، فسِر حياتها يقول (إذا استطعت أن تحافظ على القواعد الصغيرة فبإمكانك خرق القواعد الكبيرة).

هذه القاعدة تنطبق تماماً على بعض الأصوات العالية التي تطالب بفتح أبواب الجهاد لتحرير القدس من قبضة الاحتلال الإسرائيلي وإرجاعها إلى الحضن العربي والإسلامي، وهنا لا أتحدث عن الشعوب التي أخلصت كثيراً في حبها لهذه المدينة منذ سنين النكبة والنكسة وما تلاهما، ولكنني أتحدث عن تلك الحكومات التي لم تكتف بالمزايدة على الدول الإسلامية الأخرى، بل وأخذت تعيد إطلاق شعارات القرن العشرين التي ظهر أن أكثرها لم يكن سوى ظواهر صوتية تمكنت من شفط أموال العرب لصالح مجموعة من اللصوص وقطّاع الأموال الذين جعلوا من هذه القضية العادلة جسراً يعبرون به إلى تحقيق مكاسبهم الشخصية.

عندما نشبت الحرب الأهلية في لبنان في سنة ١٩٧٥، دخلت الفصائل الفلسطينية في حرب مع مسيحيي لبنان، فصار شعار المرحلة يقول (طريق القدس يمر من جونية)، وعندما قامت الثورة الإسلامية في إيران في عام ١٩٧٩ ودخلت إيران حربها ضد العراق، صار شعار الخميني يقول (طريق القدس يمر من كربلاء)، وعندما اجتاح العراق الكويت في عام ١٩٩٠ كان شعار صدام يقول (طريق القدس يمر من الكويت)، وعندما دخل حزب الله في حرب دموية مع النظام السوري ضد شعبه صار شعار المرحلة الذي أعلنه حسن نصر الله يقول (طريق القدس يمر من الزبداني والقلمون)، وعندما انكشفت أيادي إيران المتلاعبة بجماعة الحوثي في اليمن صار الشعار يقول (طريق القدس يمر من مكة والمدينة)، وهكذا ضاعت القدس في خرائط المتاجرين بها والمقامرين بمصيرها، وصار كثيرٌ منهم قتلة ومجرمين قتلوا من العرب في بضعة عقود أضعاف أضعاف ما قتلته إسرائيل في حروبها الثلاث.

من مضاعفات الظواهر الصوتية انكشاف ازدواجية المواقف عند أنظمة الظواهر الصوتية، فتركيا التي تمتلك شبكة متينة من العلاقات الاقتصادية والسياسية والعسكرية العلنية مع إسرائيل، كانت الأعلى صوتاً في شجب اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، وكانت المتصدرة لحملة شراء قلوب الشارعين العربي والإسلامي دون أن تكلف نفسها عناء كبح جماح علاقاتها المتمددة مع إسرائيل، وشقيقتها إيران التي اخترعت يوم القدس في الجمعة الأخيرة من رمضان، هي التي أنشأت فيلق القدس الذي قاتل في عواصم العرب كبيروت ودمشق وصنعاء وبغداد والمنامة، إلا أن هذا الفيلق -ومن ورائه الحرس الثوري- جبُن عن إعلان حرب حقيقية ضد الولايات المتحدة، بل وجبُن حتى عن التحرش بإسرائيل أو القيام بعمليات قتالية في القدس أو تل أبيب، وقناة الجزيرة التي تربعت على عرش الممانعة والمقاومة طوال تلك السنين لم تستطع منع رئيس إسرائيل الأسبق "شمعون بيريز" من زيارة مقرها والسلام على مذيعيها وطاقمها، ولم تستطع توجيه عتاب مجاملة لمكتب التعاون التجاري مع إسرائيل الذي لا يبعد عن مقرها سوى كيلومترات معدودة في مدينة الدوحة، ولم تستطع منع قادة إسرائيل وجيشها من الظهور كضيوف مكرمين ومعززين على شاشاتها يقبضون منها بالدولار لقاء أتعاب حلقاتهم.

القدس هي المدينة التي طالما حلمت بزيارتها واستنشاق هوائها والمشي في طرقاتها وزيارة مساجدها وكنائسها، فما سمعته وقرأته عنها لا أظنه يقارب شيئاً من حقيقتها، ويرتبط تاريخ أكثر من ربع البشرية اليوم بهذه المدينة التي تحمل في طياتها تاريخ الأديان الثلاثة ومقدساتها. لقد رفض أغلب قادة وشعوب العالم قرار ترامب الجائر بشأن القدس، وهذا هو زمن التحركات العاقلة الذي تصب في صالح القدس وليس في صالح جيوب أدعيائها، تحركات عاقلة تُحيّد المتطرفين، تحقن دماء الأبرياء، تُرجع الحقوق لأصحابها، وتُجنب المنطقة دومينو عنف آخر باسم الله، الله الذي هدم الكعبة عنده أهون من إراقة دم مؤمن.