السبت 16 ديسمبر 2017 / 20:35

ليالي نجيب محفوظ في شبرد

د. عمار علي حسن

مع حلول ذكرى ميلاد نجيب محفوظ فاجأنا الكاتب والباحث المصري إبراهيم عبد العزيز بكتاب يصل إلى ألف صفحة سجل فيها كل ما دار في جلسات الأديب العربي الكبير في الفترة المتراوحة بين 5 يناير 2003 و23 يوليو 2006، أي حتى قبل رحيله بسبعة وثلاثين يوما فقط، ولم يكتف بما أورده في كتاب سابق له حمل عنوان "أنا نجيب محفوظ" رسم فيه عبد العزيز ملامح السيرة الذاتية لمحفوظ من خلال تتبع تصريحاته وحواراته الصحفية وما سمعه منه مباشرة في جلسات متلاحقة، وبعض ما جاء في كتب الآخرين عنه، وسمات وصفات وقسمات بعض شخصيات رواياته التي كان قد أشار إلى أنها تعكس جانباً من شخصيته، لاسيما "كمال عبد الجواد" أحد أبطال الثلاثية.

لم يكتب محفوظ سيرته الذاتية، ونثرها في أعماله التي وصلت إلى خمسين كتاباً، وحين قرر كتابة شيء عنها أتى غارفاً في الصوفية والمجاز والغموض والحذر وذلك في عمله البديع "أصداء السيرة الذاتية"، وهي حقاً أصداء، أما الصوت فربما أشمل ما عبر عنه هو الحوار الطويل الذي أجراه مع الكاتب والناقد رجاء النقاش ونشره في كتاب، وقال محفوظ عنه أنه أكثر الكتب تعبيراً عن حياته، ثم كتب أخرى لجمال الغيطاني ويوسف القعيد ومحمد سلماوي، سعت جميعها إلى كشف ما خفي، وإجلاء ما غمض، في حياة محفوظ، وملامح مشروعه السردي الكبير.

لكن أحداً من هؤلاء لم يفكر في تسجيل ما يشبه يوميات لجلسة محفوظ الأسبوعية في "شبرد" وسط القاهرة، ليأتي إبراهيم عبد العزيز ويفعلها، بعد أن واظب على حضور تلك الجلسة أكثر من ثلاث سنوات، وكان يسجل كل ما فيها، الحرف والعبارة والإشارة والإيماءة والنكتة والقفشة والتعليق والتحليل، حتى تحسب أنه كان يعد على الجالسين، وفي مطلعهم محفوظ، أنفاسهم، وهم يخوضون في كل شيء، وينتقلون من موضوع إلى آخر تاركين أنفسهم لقانون تداعي المعاني.

والكتاب الذي صدر عن "دار بتانة" بالقاهرة في جزئين، اتبع ما يشبه كتابة المضابط في البرلمانات، أو محاضر الجلسات في الاجتماعات الرسمية، محافظا على الشكل الحواري المفتوح الذي كان سائدا في تلك الجلسات التي كان يحضرها أدباء وشخصيات من "شلة الحرافيش" وغيرهم، يتوسطهم محفوظ، الذي كان سمعه وبصره آخذان في الضعف، وكان جسده يوهن بتقدم العمر، فحرص على الإنصات أغلب الوقت، وإن تدخل ففي كلام مقتضب، لكنه عميق المعنى والرؤية، وفي الغالب كان لا يتحدث إلا إذا سأله الحاضرون، الذين كان بعضهم يستفيض في الكلام، مستعرضا ما يعرفه أحيانا، ومعلقاً على الأحداث الجارية أحيانا، لاسيما أن تلك الفترة شهدت أحداثا رهيبة، مثل غزو العراق، ووفاة ياسر عرفات، وفوز حركة "حماس" بالانتخابات الفلسطينية، وفوز جماعة "الإخوان" بثمانية وثمانين مقعدا، لأول مرة في تاريخها الذي بدأ عام 1928، في الانتخابات البرلمانية المصرية، وظهور الحركة المصرية من أجل التغيير "كفاية" وبدء الاحتجاجات الاجتماعية في مصر.

وكان ضعف بصر محفوظ قد منعه من قراءة الصحف فكان أحياناً يسأل عن الأخبار، ويحرص على أن يسمع أكثر من رواية، قبل أن يعلق عليها إن طُلب منه ذلك، فإن لم يُطلب اكتفى بالسماع واحتفظ بالرأي لنفسه.

كان محفوظ يعلق على هذه الأحداث تباعاً، وينصت أغلب الوقت للآراء التي يبديها الجالسون فيها، لكنه كان يجد نفسه أحيانا مضطرا للإجابة على أسئلة تخص كتاباته وشخصيات قصصه ورواياته وبعض أسرار جائزة نوبل التي حصل عليها عام 1988، لاسيما حين كان يزوره صحفيون لإجراء حوارات معه، أو يقع في مناقشات مع ضيوفه، إحداها هي تلك المناقشة الحادة مع الكاتبة صافيناز كاظم التي أخذت تقتحمه وتهاجمه، وهو عليها في صبر شديد، يقدح ذهنه، ويستدعي مخزون معرفته وحكمه ليحتوي غضبها، ويجيب على أسئلتها، ويصحح لها بعض الصور النمطية التي كانت تعشش في رأسها عنه.

ولم يرد إبراهيم عبد العزيز أن يترك ما جمعه هكذا دون أن يقول رأيه فيه، فاستفاض في كتابة مقدمة لكتابه، لخص فيها الكثير من المواقف التي مرت بمحفوظ خلال هذه الفترة، ووضع يده على القضايا البارزة التي شملتها تلك الجلسات، وكشف عن بعض الأسرار التي تخص محفوظ، كشخص وكاتب، ومنها موقفه من غضب الأديب الكبير يوسف إدريس من حصول محفوظ على نوبل، واتهامه له بأنه حصل على الجائزة الكبرى لرضى الدوائر اليهودية عنه، وموقفه من الهجوم اللاذع الذي شنه عليه الناقد والأكاديمي البارز د. صبري حافظ، وكشفه للمرة الأولى عن صحة الرواية التي كان يقولها الأديب سعيد الكفراوي عن أن محفوظ قد أبلغه أنه هو بطل روايته القصيرة "الكرنك" بعد أن حكى له الكفراوي عن تجربة اعتقاله وسجنه، وكانت الأوساط الأدبية تكذب ما يقوله على مدار العقود الفائتة.

أعتقد أن هذا الكتاب، المختلف في نوعه، يعد أحد الشهادات على موقف فريق من "الجماعة الثقافية" المصرية من الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كان يموج بها العالم العربي في تلك الفترة العصيبة. وربما لو أتيح لعبد العزيز، أو غيره، أن يدونوا الجلسات الأخرى لمحفوظ، والتي تمتد لعقود من الزمن، لكان بين أيدينا الآن شهادت تنفع في دراسات معمقة في علم اجتماع المعرفة، وعلم اجتماع الثقافة، وتفيد بالقطع في سبر أغوار محفوظ نفسه.

فمحفوظ، وكثيرون مثله، كان لا يحرصون على التعليق المباشر على الأحداث والوقائع الجارية، وكثير منها مر دون أن نعرف آرائهم فيها، لأنهم كانوا يبدونها في جلسات خاصة، وحوارات مباشرة وجها لوجه، رغم أن الواقع أيامها كان يتطلب منهم أن يسمعوا الناس أصواتهم، بل إن كثيرين انتظروا من محفوظ أن يصدر بيانات أو يدلي بتصريحات يعبر فيها عن رفضه لأداء السلطة وقتها، خاصة أنه كان قد توقف عن الكتابة، ولم يعد مقبولا منه أن يتذرع بما كان يقوله في السابق من أنه يقول رأيه في سردياته القصصية والروائية.

إن محفوظ الكتوم المحاذر، الذي كان يخشى مضاهاة أبطال قصصه ورواياته بحياته الشخصية، لم يكن يعلم أن هناك من يحصي كل ما يخرج من فمه، وكان يستريبب فيما يفعله إبراهيم عبد العزيز، حتى أنه كان أحياناً ينظر إليه وهو غارق في كتابة كل ما يسمع بدأب وسرعة شديدة، ويسأله: "ماذا تفعل يا إبراهيم بيه؟"، ووقتها لم يكن صاحب "ليالي محفوظ في شبرد" يكشف له حقيقة ما يفعل، ليظفر في النهاية بهذا الكتاب المختلف الذي أتى على ذكر أشياء حرص محفوظ على أخفائها زمنا طويلا.