نظارات طبية على صحيفة (أرشيف)
نظارات طبية على صحيفة (أرشيف)
الإثنين 18 ديسمبر 2017 / 20:29

انحدار المثقفين

هل نستطيع ان نؤرّخ لنشوء الطبقة الحديثة من المثقفين بالفترة الكولونياليّة، لقد رحل الاستعمار تاركاً وراءه مثقفين نشؤوا في رعايته وطبقاً لحاجاته في البلاد المستعمرة أو لحاجات البلاد المستعمرة كما يزنها في رعايته وحضوره. في ذلك تبدو الدولة المستعمرة "بكسرالميم" المثال والنموذج وإن روعيت في ذلك حاجات الإستعمار وثقافته.

مع النكسات السياسيّة وانقضاض الضباط، وهم من صغار المثقفين والأحزاب المشكّلة أيضاً من صغار وأشباه المثقفين، على السلطة، فقد مهد ذلك للحروب الأهليّة الّتي عصفت بالمجتمعات الّتي عانت من الديكتاتوريّات العسكريّة

يمكننا القول إن طبقة المثقفين، وإن كانت بمقاييس المستعمر وفي خدمته، إلاّ انّها بهذا المعنى بنت زمانها، وهي من نواح كثيرة متصّلة بعصرها. 

أي أنّها مصدر الحداثة وأوليّتها. إذا أخذنا لبنان مثالاً لهذه العمليّة الّتي تكرّرت بتفاوت وبتباينات في معظم الدول العربيّة، فإنّنا نجد بوضوح أن التجديدات والتحديثات اشتبكت على نحو أو آخر بأوضاع موروثة، اجتماعيّة أو عائليّة وعشائريّة وطائفية وطبقيّة وتقاليديّة.

هذا الإشتباك قد يخلق أوضاعاً خاصّة وجديدة وليس لها في السابق أي شبيه، وبالتالي لم يمرّ المجتمع بها ولم يخبرها وليس لها عنده حلول أو تصوّرات أو نماذج مسبقة.

إذا كان المحامي في فترة هو النموذج للمثقف، فإن هذا المحامي هو في الغالب إبن أحد وجهاء العائلة أو العشيرة المتنافسين في العادة والمتعادين أصلاً مع عشائر وعائلات أخرى، وسيحمل هذا المحامي إلى جانب علمه هذا الإرث من عشيرته وقبيلته أو موقعه الطبقي إذا كان له موقع من هذا النوع، فإذا دخلت سلطة المستعمر الحديثة، فإن المحامي سيكون المرشّح الأوّل للإشتراك فيها، سترشحه عشيرته أوعائلته أو ذووه، وعلى هذا النحو سيحمل معه إلى مقاعد السلطة مزيجاً من المصالح المختلفة.

أمّا لماذا المحامي دون غيره من الأهل والميسورين، فلأن السياسة على هذا النحو جديدة على المجتمع وليس للأكثرين كبير خبرة بها، وبالتأكيد ليس لشيخ العشيرة أو العائلة أي مراس بها وأي خبرة، لذا يختار الوجيه أو الشيخ من ينوب عنه فيها فالسياسة حتّى ذلك الحين تحتاج إلى اختصاص ويخوضها نفر قليل من الناس، فهي ليست بعد، وليست السلطة أيضاً، بعد، مدار المجتمع وديناميته وبوتقته السياسة إنّها حتى ذلك الحين ومعها السلطة جانب جزئي وليس كلياً ولا شاملاً.

إنهما مركز من مراكز وليسا "بهذا المعنى" المركز.

 انبنت طبقة المثقفين الأولى حول السلطة وحول احتياجاتها ومواقعها. ظلّت قشريّة سطحيّة بقدر ما بقيت السلطة قشريّة سطحيّة وإزدادت عدداً وتركّزاً وتأثيراً وتنوّعاً بقدر ما كانت السلطة تزداد تركّزاً وتدخّلاً وتأثيراً.

أي "بكلمة أخرى" بقدر ما كانت السياسة نفسها تزداد انتشاراً وتغلغلاً في مختلف الفئات والطوائف والمناطق والجماعات، وبقدر ما يتحوّل الإنسان إلى مواطن وينتسب إلى دولة، وبقدر ما يتحوّل، في جملة ما يتحوّل إليه، إلى حيوان سياسي، فوق هذا الإشتباك بين المثقف والإجتماعي، ابن الجماعة والطائفة والطبقة، بدأت مع نموّ السلطة والسياسة تتكوّن "بفارق متفاوت عن الأهل والجماعة" طبقة مثقفّين، ومن الواضح أنّها صارت كذلك مع نمو السلطة والسياسة.

لقد غدت السياسة "شيئاً فشيئاً" أقلّ هامشيّة، الأمر الّذي سمح بتنوّع وتعدّد أمكن معهما ولادة اتجاهات معارضة بل وثوريّة.

هذا في ما يتعلّق بالسياسة، أمّا خارجها فكان النتاج الأدبي والفكري والفنّي. حتى هذا الحين كانت طبقة المثقفين تتسّع وتزداد قوّة ما بقيت السياسة والسلطة معها عمل فئة وأقليّة.

أما مع النكسات السياسيّة وانقضاض الضباط، من صغار المثقفين والأحزاب المشكّلة أيضاً من صغار وأشباه المثقفين، على السلطة، فمهد ذلك للحروب الأهليّة الّتي عصفت بالمجتمعات الّتي عانت من الديكتاتوريّات العسكريّة.

مع هذا انتشرت السياسة، وصار الإنسان العادي الصغير "إنطلاقا من جماعته وطائفته وإنتسابه لهما" سياسياً.

لم تعد السياسة ولا السلطة حديثتين بالضرورة، صار للإثنتين مكانهما في الوسط الشعبي الطوائفي، وإنتقل النقاش إلى هذا الوسط وتقريباً بلغته وموروثه. هكذا باتت السياسة والسلطة لعبة الجميع ولم يعودا لعبة المثقفين والمثقفين الحداثيين وحدهم.

كانت النتيجة أن طبقة المثقفين تضاءلت قيمتها وتراجع تأثيرها وغدت هكذا هامشية وأشبه بفئة خاصّة معزولة ومحصورة ومستغرقة في نفسها، بعيداً عن السلطة وعن السياسة في آن معاً.