المفكر يشعياهو ليبوفيتش.(أرشيف)
المفكر يشعياهو ليبوفيتش.(أرشيف)
الأحد 24 ديسمبر 2017 / 18:51

ثلاث إشارات وثلاثة مواقف

أطلق ليبوفيتش على المزار الديني الجديد تسمية "ديسكوتيك حائط المبكى"، محذراً من مخاطر قومنة الديني في اليهودية، وتحويله إلى سلعة سياسية، ومادة للاستهلاك الفولكلوري والسياحي، ورأى في ذلك كله تدنيساً لليهودية نفسها

أشرنا في مقالة سبقت إلى حقيقة أن مركزية القدس في الخطاب الإسرائيلي عن المدينة وُلدت على دفعات، وأن لحظة تحوّلها الحاسمة وقعت في العام 1977، مع وصول اليمين، بزعامة مناحيم بيغين، إلى سدة الحكم، للمرّة الأولى في تاريخ الدولة الإسرائيلية.

هذا لا ينفي أن القدس حضرت في الخطاب الصهيوني، بتنويعات مختلفة، منذ ظهور الحركة في أواخر عقود القرن التاسع عشر. ومع ذلك، ثمة ما يكفي من الشواهد للتدليل على أن المزج بين الدلالتين القومية والدينية، بعد تديين الأولى، وقومنة (من القومية) الثانية، بالطريقة المتداولة في الوقت الحاضر، يعود إلى أواسط السبعينيات، وأن مزيجاً كهذا كان مصدر قلق دائم حتى قبل خروجه من الهامش إلى المتن بعقود طويلة.

وفي سياق كهذا، نعثر في نص لشموئيل يوسف عجنون (توفي في العام 1970)، الإسرائيلي الوحيد الفائز بجائزة نوبل للآداب (1966)، على التوتر الكامن في علاقة المتدينين والعلمانيين بتل أبيب. ففي النص غير المؤرّخ، والذي يبدو أنه كُتب في ذكرى إنشاء المدينة، يكتب عجنون (الذي أقام في القدس منذ استقر بصورة دائمة في فلسطين في العام 1924)، بطريقة لا تخلو من السخرية:
 
يعزو آباء المدينة وبُناتها لأنفسهم بناء تل أبيب، ولكن نحن الذين نؤمن بالله نعرف أنه الباني والخالق، ونضج بالضحك عليهم.
ويصعب، في الواقع، فهم الدلالات العميقة لسخرية عجنون خارج، أو في معزل عن، التوتر التقليدي بين جناحي المتدينين والعلمانيين في الحركة الصهيونية، وعمره من عمر الحركة نفسها. فالجناح الأوّل كان يخشى تفريغ اليهودية من مضمونها الديني، مقابل الحفاظ على قشرتها القومية، بينما انتابت العلمانيين، وهم الأغلبية والطليعة السياسية، وبناة مشروع الدولة، مخاوف دائمة من نجاح المضمون الديني في تخريب الدلالة القومية للمشروع السياسي.

فاليهودية كدين لا تحتاج لدولة، أو لغة، أو مكان جغرافي بعينه، واليهودي، كما تنص الشريعة، لا يحتاج، علاوة على انحداره من أم يهودية، لأكثر من 613 وصية (ميتسفوت) تنظّم حياته اليومية ليكون يهودياً صالحاً.

وبقدر ما يتعلّق الأمر بإسرائيل، هناك الكثير من الأدباء، وبعض هؤلاء من القطع الكبير، وهناك الكثير من الأكاديميين، وبعض هؤلاء من الأسماء المرموقة في عالم الأكاديميا الغربية، ومع ذلك لم يظهر، في المشهد الثقافي والفكري الإسرائيليين، مفكرون وفلاسفة من قطع كبير، ما عدا استثناءات قليلة، ومن هؤلاء يشعياهو ليبوفيتش (توفي 1994).

كان ليبوفيتش صهيونياً متديناً، ومن النجوم الساطعة في اللاهوت والفلسفة، وقد صدم موقفه الكثيرين في العام 1967، بعد احتلال الشطر الشرقي لمدينة القدس، وهدم حي المغاربة، وتحويل حائط البراق (المبكى) إلى مزار ديني وسياحي، يرتاده الآلاف، يومياً، وتؤدى فيه الطقوس.

يومها، أطلق ليبوفيتش على المزار الديني الجديد تسمية "ديسكوتيك حائط المبكى"، محذراً من مخاطر قومنة الديني في اليهودية، وتحويله إلى سلعة سياسية، ومادة للاستهلاك الفولكلوري والسياحي، ورأى في ذلك كله تدنيساً لليهودية نفسها.

وأذكرُ، في هذا الصدد، أنني سألت (في أواسط التسعينيات) إسرائيل شاحاك الذي كان من أكبر وأهم نقّاد الديانة اليهودية، والدولة الإسرائيلية، عن حقيقة موقف ليبوفيتش، فقال إن ليبوفيتش يعرف أن اليهودية ضعيفة الآن، لذا يخشى عليها إذا تملكتها الميسيائية، وحاولت إشهار قوتها، من التحطيم، ولكن في يوم ما، عندما يشعر المتدينون بالقوّة الكافية، لن يتورعوا عن تسديد الحساب مع العالم كله.

يصعب التحقق، بطبيعة الحال، من الدلالة النهائية لتحليل كهذا، ومع ذلك في مجرد وقوف شخص في وزن ليبوفيتش ضد النزعة القومية المفاجئة، التي اجتاحت الإسرائيليين بعد احتلال القدس، ورفضه للمكانة الجديدة التي احتلها حائط البراق (المبكى) في الخطاب العام، ما يعيد التذكير بالمخاوف التقليدية التي كانت دائماً في صميم موقف المتدينين من مخاطر النزعة القومية.

وربما لن تكتمل صورة مركّبة كهذه دون الإطلال على جانب إضافي منها. وفي هذا الصدد يحضر غيرشوم شولم (توفي 1982) الذي يعتبر من أبرز المثقفين اليهود في عالم القرن العشرين. اعتنق شولم تنويعاً معيّناً للصهيونية، واختص في دراسة الميسيائية اليهودية، وقد حذّر في معرض الكلام عن إحياء اللغة العبرية على يد الصهاينة الأوائل في فلسطين، من مخاطر "السم القيامي"، أو "الشوكة القيامية"، عندما ينفجر العنف الديني الكامن في لغة كهذه في وجه الناطقين بها: "الذين أعادوا اللغة العبرية إلى الحياة، لم يؤمنوا بيوم الحساب الذي ينتظرنا".

والواقع أن كل مخاوف، وتحفظات، وشكوك، عجنون، وليبوفيتش، وشولم، تجد ما يبررها في ما نتج عن قومنة الديني، وتديين القومي، من خليط متفجّر وسريع الاشتعال، يرفع به، وعليه، خطاب الإسرائيليين، اليوم، القدس إلى مرتبة المُقدّس، وينشئ منه صلة مباشرة، وقيامية تماماً، بينها وبين الأبد.

وطالما بدأنا بعجنون يمكن أن نختم به، ففي نصوصه الأدبية (وهي بالمناسبة مملة، وتقليدية، ومليئة بالمواعظ) وما جاء فيها من علاقة محتملة بين القدس وتل أبيب، كان الخروج من التقاليد، وعليها، وعيش حياة مقتلعة من جذورها، يعني الهرب من الأولى إلى الثانية. ولنا عودة في معالجات لاحقة.