رسم تمثيلي للطبابة في أيام النبي. (أرشيف)
رسم تمثيلي للطبابة في أيام النبي. (أرشيف)
الخميس 28 ديسمبر 2017 / 20:18

هل كان رسول الله طبيباً؟

يستدل أنصار الطب النبوي بمجموعة من التشريعات الوقائية والعلاجية التي أمر رسول الله باتخاذها على قدسية الطب النبوي، لكن إذا نظرنا إلى النبي ص على كونه رئيس بشري لدولة المدينة، فإن هذه التشريعات في ضوء هذه المقدمات هي تشريعات صحية مقبولة في زمانهم مثلها مثل تشريعات صحية أخرى في حضارات العالم القديم قبل الإسلام

جواب هذا السؤال هو مفتاح حل المشكلة، ولا يمكن حلّه إلا بتحليل الروايات التاريخية ووضعها في سياقها التاريخي والاجتماعي دون السماح لها بتجاوز ذلك السياق، فتقول الروايات الصحيحة إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يعالج سعد بن معاذ عند الصحابية رفيدة حين أصيب في حصار الخندق، فلو كان طبيباً لماذا لم يتولَّ هو علاج هذا الصحابي؟ وتقول الروايات كذلك إن سعد بن أبي وقاص مرض فقال له النبي "إنك رجل مفئود، ائت الحارث بن كلدة أخا ثقيف فإنه رجل يتطبب"، فلو كان طبيباً لطبب سعد بن أبي وقاص بنفسه، فما الحكمة من بعث سعد إلى طبيب من ثقيف يبعد عن محل سكن سعد أياماً كثيرة؟ وهناك رواية تقول أن رجلاً في زمان النبي ص أصابه جُرح، فاحتقن الجرح ودُعي رجلين من بني أنمار، فنظرا إليه، فسألهما النبي: "أيكما أطب؟"، فلو كان طبيباً لكان أعلم من هذين الرجلين الذين أرسل في طلبهما، ولما احتاج طرح هذا السؤال عليهما من الأساس.

وورد كذلك أن عروة ذات مرة سأل خالته عائشة: يا أمتاه لا أعجب من فقهك، أقول زوجة نبي الله وابنة أبي بكر، ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس، أقول: ابنة أبي بكر، وكان أعلم الناس، ولكن أعجب من علمك بالطب كيف هو؟ ومن أين هو؟ قال: فضربت على منكبيه، وقالت: "أي عروة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسقم عند آخر عمره، وكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه فكانت تنعت له الأنعات وكنت أعالجها له، فمن ثم علمت"، فالسؤال المطروح هنا: لماذا تقول السيدة عائشة أنها تعلمت الطب من وفود العرب التي كانت تعالج رسول الله وليس من رسول الله نفسه؟ ويبدو أن هذا الوعي بفصل مسائل الشريعة عن مسائل الطب قد وُجد مبكراً عند الصحابة، فهذا عمر بن الخطاب عندما طُعن وهو يصلي "قال أرسلوا إلي طبيباً ينظر إلى جرحي"، فلو كان هناك طب نبوي متكامل لكان الصحابة ممارسين لمهنة الطب بصفتهم تلاميذ للنبي صلى الله عليه وسلم.

يستدل أنصار الطب النبوي بمجموعة من التشريعات الوقائية والعلاجية التي أمر رسول الله باتخاذها على قدسية الطب النبوي، لكن إذا نظرنا إلى النبي ص على كونه رئيساً بشرياً لدولة المدينة، فإن هذه التشريعات في ضوء هذه المقدمات هي تشريعات صحية مقبولة في زمانهم مثلها مثل تشريعات صحية أخرى في حضارات العالم القديم قبل الإسلام، وقد تتقاطع هذه التشريعات القديمة مع تشريعاتنا الصحية الحالية إلا أن فعاليتها وعبقريتها لا تستلزم قداستها وإلهيتها، لا شك أن هذه التشريعات تعكس حكمة النبي ص المتناغمة مع شخصيته المنطقية والعقلانية، وبعض تشريعاته فيها جوانب وقائية صحية مثل أمره بإزالة القذارات عن الثوب وعدم استخدام اليد اليمنى لتنظيف محل البول والغائط، فاليمنى تستخدم عادة في الأكل والشرب والمصافحة، وإن اضطر الإنسان لاستخدام أحد يديه في الاستنجاء فلتكن اليد اليسرى، ولاشك أن إجراءً مثل هذا -في زمن شحّ الصابون وأدوات التنظيف والتعقيم- سيؤدي إلى الحد من انتقال الأمراض المعدية التي تعيش في مثل هذه النجاسات وتنتقل عن طريق الأكل والشرب والمصافحة.

وورد في الآثار أن النبي ص إذا أراد أن يأكل غسل يديه، ونهى أيضاً عن تلويث الأماكن التي يجتمع فيها الناس فقال (اتقوا الملاعن الثلاثة البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل)، وفي هذا الحديث جانب وقائي للناس من أذى فضلات الإنسان في وقت لم توجد فيه مصارف صحية، فماذا سيكون حال الناس الذين سيتأذون من وجود الفضلات؟ وستكون هذه الأماكن التي يستجم فيها الناس مصدراً غنياً لانتقال الأمراض المعدية، كذلك أطلق عبارته الشهيرة (ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث طعام وثلث شراب وثلث لنفسه)، ولقد كان هذا الحديث بالذات محط ثناء وإعجاب الأطباء والفلاسفة الأولين لأنهم رأوا فيه أصلاً في الصحة والشفاء والعافية.

لكن هل كل التشريعات الخاصة بدولة وُجدت من أكثر من ألف وأربعمائة قرن صالحة لكل زمان ومكان؟ فلو أخذنا مثلاً قول النبي ص عن الطاعون (Plague) (إذا بلغكم أنه بأرض فلا تدخلوها)، فهل يمكن تطبيق هذا الحكم اليوم بحرفيته؟ لاسيما وإننا نعلم اليوم أن سبب الطاعون بكتيري (Yersinia pestis)، وينتقل عادة إلى الإنسان عن طريق عضة الفئران المصابة، ونادراً ما ينتقل من مريض لآخر إلا إذا كان الطاعون قد أصاب الرئة، ويبدو أن الطاعون التي فتك بالعرب والأوربيين في حقبات التاريخ السابقة هو من هذا النوع المعدي جداً، ولذلك فإنه يجب اليوم أن يُحجر على كل مصاب بهذا المرض عنده أعراض رئوية حتى يبدأ تناول المضادات الحيوية لحين التأكد من عدم وجود التهاب رئوي بفحوصات البلغم، اليوم نستطيع أن ندخل المدن التي أصابها الطاعون بعد القيام بالاحتياطات المعروفة ونضع مرضى الطاعون في غرف منعزلة ونترك الحياة تمضي طبيعية خارج هذه الغرف حتى يتماثل المريض للشفاء التام.

كذلك عندما قال النبي ص (فر من المجذوم كما تفر من الأسد)، هل يصح اعتبار الجُذام مرضاً شديد العدوى حتى يُفر منه؟ والجذام هو مرض ال (Leprosy) وكان يعتقد سابقاً أنه معدٍ جداً، لكن وبالرجوع إلى المصادر الطبية المعتمدة فإنه يتبين أنه ليس معدياً بالدرجة التي كان يتصورها القدماء، فالعدوى قد تحصل من الاتصال القريب والمتكرر مع قطرات أنف المصاب الذي لم يتم علاجه.

إن الإشارات الطبية في الحديث النبوي قد تتقاطع مع ما نُقل من إرشادات عن البابليين والآشوريين والفراعنة والإغريق والرومان والصينيين والمكسيكيين، لكن جميعها لا ترقى إلى درجة القداسة المطلقة، بل هي مجهود بشري جيد بُني على ما قبله كما نبني اليوم على من قبلنا، وسيأتي بعدنا ليبنوا على ما بنينا نحن، فالتغير هو الثابت الوحيد في التاريخ.