الكاتب والمؤرخ المصري الراحل صلاح عيسى (أرشيف)
الكاتب والمؤرخ المصري الراحل صلاح عيسى (أرشيف)
الأحد 31 ديسمبر 2017 / 20:23

الرثاء يليق بصلاح عيسى..!

الرثاء يليق بصلاح عيسى، ومن حقه على محبيه الاعتراف بحقيقة أن غيابه يمثل خسارة للعاملين في الحقل الثقافي العام، في مصر والعالم العربي، على حد سواء. وهو صاحب المكانة المرموقة منذ أطل على المشهد الثقافي، في مصر بكتابه عن الثورة العرابية، في سبعينيات القرن الماضي، وحتى رحيله قبل أيام.

نجح صلاح عيسى على مدار عقود لاحقة، فصلت بين لحظتي الحضور والغياب، في تكريس حضوره الثقافي والفكري بوصفه أحد صنّاع الرأي العام، سواء على صفحات دوريات أسهم في إنشائها وتحريرها، ورسم توجهها العام

وقد نجح على مدار عقود لاحقة، فصلت بين لحظتي الحضور والغياب، في تكريس حضوره الثقافي والفكري بوصفه أحد صنّاع الرأي العام، سواء على صفحات دوريات أسهم في إنشائها وتحريرها، ورسم توجهها العام، أو في قراءات أوسع جمعت بين البحث التاريخي والسوسيولوجي، كما فعل في كتابه اللامع "رجال ريا وسكينة: سيرة سياسية واجتماعية".

ولعل في العمل المذكور ما يمثّل مدخلاً لفهم القيم التي حكمت حضوره في الحقل الثقافي المصري. ففي "رجال ريّا وسكينة"، عثر في الخلفية العامة لحالة جنائية اكتسبت أبعاداً شبه أسطورية، وتجلّت في مرويات شعبية، وأعمال فنيّة مختلفة، على ما يمكّنه من استعادة العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي أسهمت في تكوينها، والتي يمكن أن تفسّر، بالتالي، حركة وحراك المجتمع في مكان وزمان محددين.

بمعنى آخر، في كل ظاهرة مهما بدت هامشية، أو مقطوعة الصلة بما حولها، ما يُحرّض على البحث عن، واكتشاف، العوامل الاجتماعية والثقافية والسياسية، التي أسهمت في تكوينها. وهذه، في التحليل الأخير، وظيفة المثقف، الذي لا يعترف بالفصل المُفتعل بين العمل في الحقل الثقافي العام، والفعالية الاجتماعية.

كانت فكرة استحالة الفصل بين وظيفة المثقف، وفعاليته الاجتماعية، ذات حضور طاغ في مصر الناصرية، وفي كل مكان آخر في العالم العربي، في خمسينيات القرن الماضي، وهي الفترة التي بلغ فيها صلاح عيسى سن الرشد، وكانت بمثابة تجربته التكوينية الأولى بالمعنى الإنساني، والسياسي، والثقافي العام.

لذا، وعلى غرار الكثيرين من أبناء جيله، تجلى بحثه الشخصي عمّا يُوحّد الوظيفة بالفعالية في وطنية مصرية صافية أنجبتها ثورة العام 1919، وفي خيارات أيديولوجية لم تكن معادية للناصرية، بالضرورة، وإن كانت في كل الأحوال على يسارها.

وبما أن الناصرية لم تكن قادرة على تعايش طويل الأمد، أو حتى مجرّد التأقلم، مع مَنْ يقف على جانبيها، سواء من جهة اليمين أو اليسار، كان على صلاح عيسى، كما كان الشأن مع كثيرين من أبناء جيله، أن يدفع ثمن قناعاته السياسية، وخياراته الأيديولوجية، في المعتقلات، وفي تجليات مختلفة للملاحقة، ومصادرة الحق في حرية التعبير.

ومع ذلك، وهذه مسألة وثيقة الصلة بذلك الجيل، وينبغي أن تُحسب دائماً لهم لا عليهم، لم يذهب أحد من الواقفين على يسار الناصرية، بالمعنى السياسي والاجتماعي، إلى حد العداء المطلق، فعلى الرغم من المعتقلات، والملاحقة، والتعذيب، إلا أن هؤلاء حاولوا العثور، دائماً، على قواسم مشتركة مع الناصرية، شخصاً ونظاماً، ووصل الأمر في حالات بعينها إلى حد حل التنظيمات اليسارية المصرية، ودمجها في "الاتحاد الاشتراكي"، وحتى في أقسى لحظات الهزيمة في العام 1967، لم يتنكروا للشخص والنظام.

وهذا يختلف أشد الاختلاف عن خيارات الإخوان المسلمين، الذين كانوا، دائماً، على يمين التجربة الناصرية، وناصبوها العداء، وبحثوا بكل طريقة ممكنة، بما في ذلك التحالف مع أعدائها في الداخل والخارج، عمّا يسهم في تقويضها، شخصاً ونظاماً. وفي لحظة الهزيمة القاسية، في العام 1967، لم يتورعوا عن الشماتة، وفي حالات بعينها الفرح، على الرغم من حقيقة أن الهزيمة لحقت بمصر، وهي أكبر من الناصرية، وأبقى.

وعلى خلفية كهذه، أي التحوّلات السياسية والاجتماعية، التي عاشتها مصر، وعصفت بها، بكل ما فيها من صعود وهبوط، في النصف الثاني من القرن العشرين، والمصائر الدرامية المعقّدة لجيل من الوطنيين والمثقفين المصريين، شاءت الأقدار أن يكون في قلب العاصفة، وأن يكتوي بها، تتجلى سيرة ومسيرة صلاح عيسى، الذي أنضجته التجربة، بحلوها ومرّها، ولكنها لم تنل من روحه الوطنية الصافية، وعروبته، ومن تحيّزاته الاجتماعية والسياسية، وقناعته الراسخة باستحالة الفصل بين وظيفة المثقف، وفعاليته الاجتماعية، حتى يومه الأخير على هذه الأرض. ولعل في هذا كله ما يبرر، في لحظة رحيله، معنى وضرورة التعبير عن الخسارة، والتذكير بحقيقة أن الرثاء يليق بصلاح عيسى.