الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أرشيف)
الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أرشيف)
الأحد 14 يناير 2018 / 20:08

خيارات السلطة، كما الأوراق، ضيّقة ومحدودة

السلطة الفلسطينية في وضع هو الأصعب منذ قيامها قبل ثلاثة وعشرين عاماً. فقد انخرطت، على مدار الفترة المعنية، في عملية للسلام، كان الأمريكيون أهم وعلى رأس رعاتها.

يتجلى مأزق السلطة في حقيقة أن اعتراف الرئيس الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل، يُرغمها على طرح ومجابهة أسئلة وجودية، تُطرح للمرّة الأولى، من نوع جدوى وجودها، وضرورة إعادة النظر في عملية السلام الحالية، وحساب ما يعود منها على المصلحة العليا للشعب من أرباح أو خسائر

وعلى الرغم من حقيقة أن العملية لم تحقق نتائج ملموسة على الأرض، في ظل تغوّل الاستيطان، وتنصّل إسرائيل، عملياً، من التزامات في أوسلو، ودخول العملية نفسها في حالة مد وجزر، وأحيانا سبات عميق، إلا أنها كانت الورقة الوحيدة المتداولة في أوساط اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين.

وبقدر ما يتعلّق الأمر بالسلطة الفلسطينية فقد استفادت من هذه الورقة في تعزيز مؤسساتها على الأرض، والحضور كلاعب رئيس في المحافل الإقليمية والدولية، ناهيك عن الحصول على مساعدات وتسهيلات دبلوماسية ومادية، وبلورة عوامل كثيرة في الإقليم والعالم، تمكنها، بتعبيرات القانون الدولي، من اكتساب مكانة دولة تحت الاحتلال.

ومع الاعتراف بحقيقة أن قسماً كبيراً من الفلسطينيين يعاني من خيبة أمل جدية بشأن عملية السلام، في ظل التعنّت الإسرائيلي، وأن هذا ينعكس على موقفه من السلطة، إلا أن القسم الأكبر منهم، الذي لا يشكك في شرعية السلطة، وضرورة الحل التفاوضي، ينتظر منها فتح آفاق سياسية وإعادة النظر في موقفها من أدارة الصراع مع إسرائيل.

وهذا، ما تحاول استثماره جماعة كحماس لتقويض السلطة من ناحية، والبقاء طافية على السطح بعد مغامرة الاستيلاء على قطاع غزة، وتداعياتها الإنسانية والسياسية الكارثية، من ناحية ثانية.

وعلى خلفية كهذه، يتجلى مأزق السلطة في حقيقة أن اعتراف الرئيس الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل، يُرغمها على طرح ومجابهة أسئلة وجودية، تُطرح للمرّة الأولى، من نوع جدوى وجودها، وضرورة إعادة النظر في عملية السلام الحالية، وحساب ما يعود منها على المصلحة العليا للشعب من أرباح أو خسائر.

وما تجدر ملاحظته، في هذا الصدد، أن صانعي القرار في السلطة الفلسطينية، ومنظمة التحرير، يطرحون على أنفسهم أسئلة كهذه في ظل إدراك، وحسابات واقعية، لحقيقة ما يعيشه العالم العربي، في الوقت الحاضر، من تحوّلات غير مسبوقة، وما طرأ على موازين القوى التقليدية فيه من خلل بيّن، بعد اشتعال حروب أهلية في بلدان مختلفة، ونشوء فراغ للقوّة تحاول قوى خارجية كروسيا، وتركيا، وإيران، استغلاله خدمة لأغراض لا تصب، بالضرورة، في مصلحة الفلسطينيين والعرب عموماً.

وفي ظل إدراك كهذا، وخلل واضح في موازين القوى، على الأرض، بين الفلسطينيين والإسرائيليين، يدرك صانعو القرار أن خياراتهم محدودة من ناحية، وأنهم ليسوا في وضع يسمح برفض مبدأ الحل التفاوضي، والخروج من عملية السلام، من ناحية ثانية.

وفي هذا الصدد، فإن مبادرة السلام العربية، التي تحظى بإجماع العالم العربي، أيضاً، هي الورقة التي لن يغامروا بالتنازل عنها في معرض البحث عن بدائل.

لذا، حتى وإن رفضوا الانخراط في، والتأقلم مع، تصوّرات غائمة بشأن "صفقة القرن" الأمريكية، فإنهم لا يملكون رفاهية رفض عملية السلام نفسها، وتتجلى خياراتهم الحقيقية في ضرورة البحث عن بدائل تسمح بتعديل ما طرأ عليها من خلل.


وقد يتجلى هذا كله في تعديلات على مبادئ كانت في صلب أوسلو، وحكمت موقف السلطة من إسرائيل. وثمة، في هذا الصدد، تكهنات كثيرة بشأن إعادة النظر في اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل، وإدخال تقييدات على التنسيق الأمني، والتحلل من التزامات سابقة طلبها الأمريكيون بشأن عدم اللجوء إلى محكمة الجنايات الدولية.

ومهما تكن طبيعة الخيارات المحتملة، يُدرك صانعو القرار أن أحد المصادر الرئيسة لقوّة موقفهم تتجلى في جبهة داخلية موّحدة.

وهذا، بالذات، ما يبدو أن جماعة حماس، التي رفضت المشاركة في الاجتماع المُنتظر للمجلس المركزي، ليست على استعداد لتوفيره، أو ما تساوم عليه لانتزاع تنازلات من السلطة بشأن وضعها في غزة.

بمعنى آخر، تضع الجماعة مصلحة الفصيل فوق المصلحة العليا للشعب، التي لم تعد مشروطة بالتفاصيل، مع أوسلو أو ضده، بل بضرورة تحشيد أوراق القوّة، حتى وإن كانت مؤقتة، وكانت القضايا خلافية. وهذا النوع من تضافر القوى في الشدائد كان من تقاليد الوطنية الفلسطينية، كما جسّدتها منظمة التحرير، في عقود سبقت.

لن يمر طويل وقت قبل اتضاح خيارات السلطة والمنظمة، في المدى القريب والمتوّسط، بعد الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل. وليس من قبيل المجازفة القول إن تلك الخيارات لن تكون قفزة في الهواء، فلن يغامر أحد بالصعود إلى شجرة لا يستطيع النزول عنها، وفي الوقت نفسه، لن يتمكن أحد من البقاء على الأرض، كما كان الحال في سنوات سبقت.

الخيارات، كما الأوراق، ضيقة ومحدودة، المجازفات خطيرة، والرهانات صعبة، والأسئلة وجودية، وغير مسبوقة، ومن المُستبعد أن يكون في المُحتمل من الإجابات ما يمثل خروجاً من عملية السلام وعليها.