الرئيس الفلسطيني محمود عباس في افتتاح المجلس المركزي لمنظمة التحرير (أف ب)
الرئيس الفلسطيني محمود عباس في افتتاح المجلس المركزي لمنظمة التحرير (أف ب)
الإثنين 15 يناير 2018 / 20:07

حين تلتهب الحناجر وتصدأ الخناجر

في لحظة تحول محمود عباس من رئيس حازم في اتخاذ قراراته الوطنية، سواء بتقديس التنسيق الأمني مع الاحتلال أو محاصرة وخنق وتجويع أهل غزة، إلى مجرد مواطن يأمل من قيادته إعادة النظر في اعترافها بشرعية الكيان العدو!

في كلمته بافتتاح اجتماعات المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، عرض الرئيس محمود عباس مواقفه بإسهاب وتفصيل غير معهود في مثل هذه المناسبات، لكنه استطاع، على ما يبدو، إقناع المشاركين المصفقين بجدوى المراوحة والهروب من الموقف الواضح إزاء ما يسمى بعملية السلام واتفاق أوسلو المشؤوم الذي أعلن الرئيس أن إسرائيل أنهته، ودعا المجلس المركزي إلى إعادة النظر فيه بعد أن أكد على فضائله، وأولها اعتراف اسرائيل بوجود شعب فلسطيني، وكأن هذا الشعب كان مهدداً بالانقراض لولا الاعتراف الاسرائيلي بوجوده!

وكعادته في مثل هذه المناسبات، حاول الرئيس التغطية على رخاوة الموقف الرسمي الفلسطيني إزاء الموقف الأمريكي المعادي والسياسة الاحتلالية الموغلة في البطش بالفلسطينيين والتعدي على حقهم في الحياة. وقد لجأ الرئيس في هذه المحاولة، إلى اللغة المشتعلة بالتحدي وبالتهكم على مواقف الآخرين دون أن يوجه قيادة منظمة التحرير التي يرأسها إلى اتخاذ خطوات عملية وإجرائية في مواجهة الحرب الإسرائيلية – الأمريكية المعلنة على الشعب الفلسطيني. بل إنه اختار أن يكون مجرد مواطن فلسطيني عادي، وليس رئيساً للسلطة والمنظمة حين طلب من المجلس المركزي إعادة النظر في الاعتراف الرسمي الفلسطيني بإسرائيل!

في لحظة تحول محمود عباس من رئيس حازم في اتخاذ قراراته الوطنية، سواء بتقديس التنسيق الأمني مع الاحتلال أو محاصرة وخنق وتجويع أهل غزة، إلى مجرد مواطن يأمل من قيادته إعادة النظر في اعترافها بشرعية الكيان العدو!

لكن ذلك لم يكن مفاجئاً، لأن قناعته كرئيس تسووي تختلف بالضرورة مع قناعات الفلسطيني العادي الذي يحلم بالخلاص من كارثة التنسيق الأمني وعبث العملية المعيبة التي تسمى عملية السلام، ولأن خياراته كرئيس أوسلوي للسلطة الأوسلوية تختلف، بل تتناقض مع خيارات الفلسطينيين الذين يشتبكون بالحجارة والسكاكين مع قوات الاحتلال في الشوارع وعلى "المحاسيم"، ولا يقنعهم الاشتباك التفاوضي مع خبثاء المشروع الصهيوني في غرف المفاوضات العقيمة.

كان المشهد مستفزاً، لكن عباس لا يتحمل وحده مسؤولية هذا العقم القيادي، فالمجلس العتيد يتكون من عشرات القادة الذين أمضوا عقوداً طويلة، هي في الواقع أطول كثيرا مما ينبغي، في قيادة العمل الفلسطيني، وهم شركاء للسيد الرئيس في مسيرته التي أوصلت الفلسطيني إلى ما هو فيه من حصار وتواطؤ وتهديد وجودي.

كما أن المجلس الذي ينبغي أن يمثل كل الفلسطينيين في الوطن وفي الشتات القسري، اختار أن ينعقد تحت حراب الاحتلال وبعد أسابيع من إعلان ترامب المشؤوم اعتراف أمريكا بالقدس عاصمة لإسرائيل وقراره نقل سفارة واشنطن إليها، وقد سبقت اجتماعات مجلس المنظمة لقاءات عربية وإسلامية كثيرة سارعت للرد على الخطوة الأمريكية المعادية، وكان الأولى أن تكون المنظمة هي المبادرة في الرد على ترامب، وأن تقود المواجهة مع المشروع الأمريكي الخطير، بدلاً من الانتظار المقيت والتعامل بخفة مع موضوع على هذا القدر من الخطورة.

لكن، وقد التأم المجلس المركزي الآن، فإن الفلسطينيين مضطرون إلى تصديق المثل القائل "أن تجيء متأخرًا خير من أن لا تجيء أبداً"، إذا كانت هذه الصحوة المتأخرة تبشر ببعض التغيير باتجاه توطين الموقف واستعادة الروح التي تقتلها أوسلو وتوقظها هبات الشارع الفلسطيني في مواجهة الاحتلال. فهل يستطيع المجلس المركزي أن يفعل ذلك؟

يدرك الفلسطينيون عجز القيادة الحالية عن الولوج إلى مشروع التثوير، ولكنهم يأملون ببعض التغيير، وخاصة في ما يتعلق بالعلاقة مع إسرائيل في شقيها الأمني والسياسي، وفي ما يتعلق بالولايات المتحدة في سياستها الساعية إلى تحقيق السلام بعد تمكين إسرائيل من الهيمنة على الشرق الأوسط برمته.
ربما يحدث بعض التغيير، لكنه سيكون تغييراً في الخطاب ولن يؤدي إلى خطوات عملية ملموسة، فقد سبق وأن قرر المجلس المركزي وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، لكن هذا التنسيق مستمر حتى اللحظة، بحكم الأمر الواقع، والعقيدة الدايتونية للأجهزة الأمنية الفلسطينية، والقناعات المبدئية للرئيس التسووي.

قرارات المجلس ستكون مثل خطاب الرئيس ملهبة للحناجر، لكنها لن تتحقق عملياً لأن خناجر رموز أوسلو صدئت منذ سنين.